أبراج البصيرة

يفكر الإنسان بشكل مختلف تماما من لحظة لأخرى، يتراجع أحيانا كثيرة عند آخر سبْقٍ ينتابه، يساير الزمن لغطا وإفلاسا، ثم يعيد تكرار ما هو مستهلك وما هو معاد كلما أنزلت بمستواه الروحي نزلات الضعف، إنها الحياة، رفيقة الفرد وعدوته.

لا نزال نحاول إعادة الصياغة، صياغة الفكر والتاريخ والروح كل حين، كل ما يحدث للفرد الإنساني هو ضرب من تحايل الأفكار على الزمن والثوابت، لهذا يجد الفرد الإنساني ذاته واقفة في مواجهة الحيرة المتجددة بتجدد الثواني، هي قيم ترتكز على الثبات في مواجهة التحولات، كصخور ألقيت في نهر جاري لا يهمد.

أمام هذا التجدد، وفي خضمه، يدفع الإنسان الثمن باهظا، يعيد تحفيز كل ما هو خامد بداخله استنكارا واستبشارا بما يحمله، لهذا يسعى إلى توطيد علاقته بالوقت، بحيث تجري الايام عكس الإنسان، عكس وجوده المتآكل، ولا تترك له أيا من الفرص في تحديد أقاليمه الغريقة في جو التضاد ومسارات التناقض، ومع أنّ الإنسان يجري داخل مصطلحاته، فإنه يسبح في فضاء لساني أهوج، تتصاعد فوق ناره استعارات كثيرة، تبدأ من الروح وتنتهي إليه.

من قضايا الفرد الإنساني التي تتردد على مناحيه المتكررة، هناك ما يمس سلوكه وتصرفاته التي تنبع من مناطقه الروحية الخالصة باتجاه محتوياته الآلية، إذ تعتبر المبادئ وقيمها بمثابة الطاقات التي تحرك كل ما هو آلي لدى الفرد الإنساني، وبهذه الطرائق، تنتج الحياة تكتلات تخدع بها العيون والحواس، لكنها تبقى مستعصية عن خداع الأبدان والأجسام، فللمواد سحرها، بينما للعمق بوصلته التي لا تخطئ طريقها أبدا.

لا أزال أصارع الدهر رغبة ولهفة بمعداتي الذاتية: هو لسان أحوال الإنسان، فيبقى الفرد يحاول أن يجلي ما تبقى له من مضامين، لعل وعسى أن احدى هذه المعاني تحمل القليل من ثنايا الصواب أو المقبول نحو الضمير المهتز، فلطالما عاد الإنسان نحو ما تبقى له من فكر، لكنه يفشل في كل حين في تحديد حاجاته الفكرية الضرورية.

ثمن التفكير باهظ جدا، وهذا يجعل الإنسان بعيدا كل البعد عنه، لأن أقنوم الرفاهية جعلته يعود إلى الحيوانية العبثية بشكل غريب، ما أغرب الكائن الذي يريد السير على طرقات بنات أفكاره، لكنه لا يحمل التفكير بجدية كافية.

لقد اتبع الإنسان أوهامه، ولا يزال، أحب مباهج الفتات وسحر اللحظات، ونسي أن يسير على تكاليف الغرق الذي يعاود معانقته كل مرة، يعيش الإنسان سرابا لذيذا لكنه يهلك أعصاب الفرد الإنساني اللقيط، من لا يفكر من بني البشر يصبح لقيطا معدما بلا مجال للمناورة، يعدم مكامن تفكيره، ثم يعيد إنتاج أغانيه الفكرية بسلاطة ووقاحة لا مثيل لـها؛ ليس هناك من معايير أخرى، صار الوجود أوضح مما كان عليه من قبل، إذ يتلاشى وجود الإنسان بمقدار تلاشي تفكيره، وبهذا تعاني الذات البشرية من شرخ الرفاهية وخمولها، من سراب الهناء وسمومه.

أقدار الفرد الإنساني تتجمع كلها في ميزاب المعاناة، الحياة معاناة، والتفكير يلعب فيها الدور الذي تلعبه المضادات الحيوية في الاجسام البيولوجية، يبقى الإنسان ذا علاقة مَرَضِية مجلجلة في مواجهة سرابه، لم يعد للفرد سوى اتباع آلام الادوية بدل الركون إلى آلام الرفاهية المزيفة، لم يُخلق الإنسان ليبحث عن الخمول والتعطيل، بل إن هذه الوضعيات وعلى استسهالها تبقى بلا عناوين ولا مكنونات، إنها ذاك السم الذي يقدَّم للإنسان بمذاق حلو.

أيا تكن علاقات الفرد الإنساني بعقله، إلا أنه ملزم بالوقوف أمامه وقفة مسائل ومتسائل، وهذه العملية بالذات ما يخشاها الكثير من الأفراد الذين اعتادوا على فرز كل الأمور بشكل جاهز ومعد سلفا.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version