أحرار الأمس عبيد اليوم

منذ أواخر القرن التاسع عشر قام باي تونس، الحسيني العاشر أحمد باي بن مصطفى، بإصلاحات اجتماعيّة داخل المملكة التونسية تمثلت في إلغاء الرق، حيث أصدر أحمد باي قانونا سنة 1846 ينص على منع العبودية، وذلك لنشر المساواة والعدل بين الجميع، كما منع بيع وتوريد الرقيق وإغلاق جميع أسواق النخاسة بالمملكة وضمن أيضا الحرية لكل مولود في المملكة التونسية.

وكانت بذلك البلاد التونسية من الأوائل عالميا والأولى عربيا في إقرار مبدأ حق الحرية لكل فرد ومنع الإتجار بالبشر بأي صفة كانت، وهذه الريادة جعلت من البلاد التونسية قدوة اقتدى بها الدول من بعدها.

ويأتي القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 مؤرخ في 3 أوت 2016 الصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته وفي الباب الثاني (في زجر الاتجار بالأشخاص) ليشدد بالعقوبة التي تصل إلى 10 أعوام سجن وخطية قدرها 50 ألف دينار لمن يرتكب جريمة الاتجار بالبشر.

ولكن هل تجاوز هذا القانون الورق؟

رغم التشريعات الزجرية مازلنا إلى اليوم نشهد الماضي بتفاصيله وكأن قرن ونيف ليس كافيا للقضاء على ظاهرة “العبيد” التي اتخذت أشكالا جديدة ومتطورة، فنحن حد الساعة نسمع ونرى عن أسواق أسبوعية في بعض المناطق الريفية ليست للخضر والغلال ولا للأثاث والملابس بل أسواق يباع فيها الطفل ويشترى حسب نوعه وشكله وقوته البدنية وتتم الجريمة تحت غطاء المعينات المنزلية وجاء تصريح وزيرة المرأة والأسرة والطفولة نزيهة العبيدي بتاريخ 02 مارس 2017 تحت قبة مجلس نواب الشعب التي تحدثت عن وجود سوق أسبوعية ينتصب كل جمعة مهمته بيع الفتيات القاصرات عبر سماسرة يشكلون وسطاء بين الولي والمشتري.

وهذا ما يؤكد وجود هذه الأسواق، حيث تباع الفتاة وفق معايير معينة على غرار السن، فمثلا الفتاة التي لم تتجاوز سن العاشرة تباع ما بين 80 و150 دينار تونسي وأما الفتاة التي بلغت سن 18 فتباع ما بين 200 و300 دينار حسب تقرير لقناة الحوار التونسي.

ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد فقد باتت الشوارع التونسية تعج بالأطفال المتسولين وظاهرة المرأة التي تحمل رضيعا بين يديها لاستعطاف المارة لطلب المال بات الأمر يوميا وعاديا، وكل هذه الظواهر تعمل لصالح شبكات ومنظمات تديرها عصابات تشتري الأطفال من العائلات الفقيرة أو تقوم بكرائهم لساعات مقابل ثلاثين دينارا في اليوم..

صحيح أن الفقر والخصاصة والجهل والأمية ونقص الإمكانيات هي الدافع الرئيسي وراء بيع العائلات لأبنائهم ولكن هذا لا يبرر الفعل الإجرامي في حق طفولتهم التي حرموا منها، فهم من الفقر والخصاصة إلى العمل في المنازل كخدم للعائلات الثرية وتنزيلهم منزلة العبيد وأقل من ذلك بدرجات بل يصل الأمر إلى التعدي عليهم بالعنف والتحرش والاغتصاب وحتى العمل في مجال الدعارة.

 لم يقف الأمر عند هذا الحد من التجارة بل كُشِفَ المستور إثر الثورة التونسية في 2011 ليكشف لنا عن الأسواق الخفية للبيع والشراء في البشر والتي تنظمها عصابات دولية تقوم بنشر إعلانات مغرية للفتيات والمراهقات كالوعد بحياة الراقية والمبالغ المالية الضخمة التي ستغير الحياة من فقر وخصاصة إلى نعيم ورفاهية، وما يفصل بين العالمين سوى إمضاء عقد شغل في قطاع السياحة أو التجميل أو معينات منزلية ليكتشفن بعد ذلك أنهن وقعن في تغرير شبكات تنشط في ميدان الدعارة والمتاجرة بالأجساد..

وقد ورد بتقرير لوزارة الداخلية أن أكثر من مائة فتاة تونسية تم تسفيرهن إلى الخارج بغية المتاجرة بأجسادهن ولكن الحقيقة أكثر من ذلك بكثير. وطبعا لا يمكن التغاضي عن التجارة الداخلية التي يعمل بها الآلاف بميدان الدعارة وسط أماكن أصبحت مفضوحة للقاصي والداني وعلانية.

إضافة إلى عمالة الأطفال والنساء تحت التهديد حيث يجبر الرجل زوجته بالعمل وجلب المال له أو يطلقها ويلقي بها في الخارج وكذلك يفعل مع أبنائه نفس الشيء لا مال لا المنزل، وحقيقة هذه الظاهرة منتشرة غير المثبتة ولكن موجودة ترتكز خصوصا بمناطق المهمشة بالبلاد.

وبذكر مجال التجارة بالبشر لا يمكننا الغض البصر عن الآفة التي تلتهم ألاف الملايين والمتورط ورائها عديد الأطراف، ويتحمل مسؤوليتها الجميع بلا استثناء هي الهجرة غير الشرعية أو كما يعبر عنها باللهجة التونسية “الحرقة” والتي يصل سعر “الرحلة” من 1500 دينار إلى 7500 دينار للفرد الواحد نحو إيطاليا، حيث نشطت هذه السوق بصفة لا تصدق منذ 2011 لا يمكن أن نستبعد وجود أطراف وشبكات لتسفير الشباب رغم عدم وجود أدلة واضحة تؤكد هذه الفرضية ولكن ما يؤكد نشاط هذه السوق هو الآلاف المحتجزة على جزيرة لامبيدوزا من قبل السلطات الإيطالية.

وطبعا لا يمكن أن ننسى الظاهرة التي اجتاحت تونس ودول العالم إبان “الربيع العربي” وهي ظاهرة تسفير الشباب نحو بؤر التوتر والتي تنضوي تحت التجارة بالبشر عبر الإغراء بحلم واهي أو شراء الذمم بالمال ولكن الظاهرة قلت مقارنة بالسنوات الفارطة.

يبدو أن الواقع شيء والقانون شيء آخر. فلا تنتظر شيء من شعوب جوعى في بطونها مرضى في أجسادها وعقولها فارغة بسبب الوضع المتردي على الجميع.

العمل الحقيقي ليس سن القوانين بل عمل على التنمية، عمل على التعليم، عمل على الصحة، عمل على التشغيل.. ويبقى السؤال أين نحن؟

كاتب التدوينة: رمزي مرنيصي

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version