كانت جدتي تدعوا لكل من أسدى لها معروفا من الشباب بمقولة جزائرية “الله يجعلك تقرا وتقري”، كانت أمنية الجميع آنذاك إكمال المشوار الدراسي، والالتحاق بسلك التدريس، هيبة المعلم بمئزره الأبيض، مكانته في المجتمع، رسالته النبيلة، جعلته يتسيد قوائم الطموح ومراتب البلوغ، لمن دواعي الفخر صلة القرابة أو الجوار بأحدهم، كان مصلحا في الخصام، وخطيبا في اللقاءات، مستشارا في الخلافات، وحكيما في النزاعات، كان بطلا يهابه الجميع لا لسيفه بل لعلمه.
مر العمر سريعا وأصبح منبوذا بين قومه، لطخوا بياضه بأقبح الصفات، سموه البخيل وألفوا فوق كتفه الكثير من النكت، نعتوه بالمجنون ورفضوا شهادته بين البشر، حاكموه بالرداءة وأحالوا إليه كل خراب حدث في البلد، حرضوا أبناءهم ونفروهم في مهنة التدريس، كسروا عصاه وقالوا الضرب ممنوع، فأصبح ضحية عند كل حدث، ومجرما عند كل جريمة، تسقط العمارات، تحدث العواصف، يغادر الشباب المدارس، يتفننون في العنف والتدخين والمخدرات، تحذف البسملة، وتغير الخرائط، والمذنب الوحيد ذاك الذي علمهم ذات يوما قول النشيد وكتابة الاسم الصحيح، ونطق السلام السليم.
كان العمر جميلا حين كنا نختبئ خلف الأبواب عند مروره، نسميه “الشيخ” أو “سيدي”، كانت المدرسة بيتا حين حمل عصاه وقوم اعوجاج أخلاقنا، وعقلنا، وحتى خطنا، كان قاسيا بعض الشيء، كقسوة الأب على أبنائه، وكهلع الأم على أطفالها، لم يرفع أحدنا يده في وجه الأستاذ، إلا إجابة على سؤال كتبه هو، ولم يقف أحدنا يوما أمامهم إلا تسلما جائزة أو عقوبة لفعلنا، غادرنا الكراسي الخشبية ونحن نرتجف عند ذكر اسمه ومرور طيفه، وسماع صوته، كان الأستاذ وطنا قبل أن يستعمر الوطن.
قبل أن نتهمه بالتقصير، وقبل أن نزج به في قفص الاتهام، قبل أن نحاصر طلبه بالرفض بحجة التقشف وقذفا بالجشع، أعيدوا للمعلم عصاه، ليتوكأ عليها حين يتعب ويجهد، ليهش بها وسط جمع المتهورين والمعتدين، وله فيها مآرب أخرى لا يعلمها سواه، أعيدوا له الهيبة والوقار، صونوا كرامته ولا تزجوا به في محاكم يكون خصما لطفل علمه الكلام، أعطوه أجرا ليجفف عرقه، ويسد رمقه، توقفوا عن إذلاله كلما قال حقي، وعن المن كلما نقضتم العهود.
عندما سئل الإمبراطور الياباني ميجي تينو عن سر تقدم اليابان أجاب: بدأنا من حيث انتهى الآخرون وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير، وحينما ثار القضاة في ألمانيا مطالبين مساواة رواتبهم مع الأساتذة ردت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل : كيف أساويكم بمن علموك.
يقول فيكتور هوغو: من يفتح مدرسة يغلق سجنا، الأمر يخص الدول التي ترى في العلم القاعدة الأساسية لبناء مجتمع متطور ومثقف تقوم عليه جميع القطاعات الأخرى، وتستند عليه عجلة التنمية، لكن الأمر يختلف في أوطاننا العربية فكلما فتحت مدرسة شيد بجانبها سجنا تزج فيه الأستاذ كلما فتح فمه طالبا لحق من حقوقه، دون أن يفلت من الضرب والطرد والعزل.