أكان لابد أيها السائق أن تشعل لفافة التبغ؛ ظل يرددها مرارا الأستاذ سيد، الرجل الستيني في تحسر وخيبة ألم.. وهو طريح الفراش، محطم المشاعر، مسلوب العقل، يبكي وينزف بلا دم أو دموع..
الأستاذ سيد عبد الباسط، موظف على المعاش يبلغ من العمر 61 عاما، أمضى حياته في العمل بوزارة العدل بإحدى المحاكم التابعة لمحافظة الإسكندرية، وتدرج في السلك الوظيفي إلى أن صار رئيسا للقلم.
سيد عبد الباسط وحيد أبويه، رجل عصامي نشأ في أسرة فقيرة بإحدى قرى محافظة الدقهلية، تخرج فى كلية الحقوق ثم سافر إلى العراق وأمضى فيه ثلاث سنوات، ادخر خلالهم مبلغا ممتازا بالنسبة إلى شاب في مقتبل العمر، ثم عاد من العراق ليجد أباه وأمه قد فارقا الحياة.. فيحزم أمتعته ويترك القرية متجها نحو الإسكندرية، حيث يقطن هناك أحد رفاق الغربة، يعمل معه بالأجرة في ميناء الإسكندرية إلى أن يأتي دوره في التعيين فينتقل إلى وظيفة صغيرة في قسم الحفظ بإحدى المحاكم التابعة لمحافظة الإسكندرية.
يتم نقل أحد زملائه العاملين بالمحكمة إلى محافظة أخرى، ولظروف النقل يعرض شقته للبيع بسعر زهيد شريطة أن ينقده المشتري الثمن بالكامل وفي الحال، فتقع في قسمة الأستاذ سيد..
ويقع الأستاذ سيد بدوره في حبائل “زينب” الفتاة الرقيقة التي تسكن بإحدى شقق العمارة المجاورة، يتقدم لخطبتها ويتزوجها، ثم ينجب منها أولاده الأربعة عيسى، محمود، إبراهيم وأخيرا بثينة.
عيسى عبد الباسط الابن الأكبر، احتفل بعيد مولده الرابع والثلاثين منذ أيام ، بعد صراع ملحمي نحو تحقيق الذات، وضياع أسراب الأماني الشاردة استقر به الحال في وظيفة صغيرة بمصلحة الضرائب..
محمود عبد الباسط الفتى المتمرد ذو التسعة وعشرين عاما، لم تكف درجاته في الثانوية العامة بأن تلحقه بكلية الإعلام التي كانت أكبر آماله، فالتحق بكلية الأداب على أمل أن يجد ضالته وأمله المنشود في قسمها الإعلامي..
كان وسيما مفوها يحب الظهور، وموهوبا يعشق السينما ويجيد التمثيل، طلعته الرزينة وجرأته الخاطفة لطالما جلبتا إليه الأنظار وأكسبتاه لمعانا وبريقا..
سعى كثيرا بعد التخرج نحو القمة، تنازل كثيرا، وتملق كثيرا، واندس في مختلف الأوساط الفنية حاضرا على الدوام لا يدع فرصة ولا يترك مناسبة.
يعمل محمود في فرقه مسرحية بالقاهرة، تزدهر في الصيف وتكثر عروضها، فيزدهر معها وتكثر أمواله، بينما الشتاء ثقيل بلا عمل ولا أموال فيعود إلى الإسكندرية مكتفيا بدفء الأسرة.
إبراهيم عبد الباسط، يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، لم يكن محبا للتعليم أبدا برغم فراسته وذكائه الشديد، ولذلك فقد اكتفى بدبلوم التعليم الفني ولم يلبث أن تخرج وعمل ميكانيكيا بإحدى الورش وأخذ يتعلم ويتطور المرة بعد المرة، والسنة تلو الأخرى حتى علا شأنه ولمع نجمه، يقولون عن الأسطى إبراهيم أنه ماهر (تلتف يداه بالحرير)، يلقبونه (بالدكتور) حين يهم بفحص إحدى السيارات ليحدد العلة، ويلقبونه (بالباش مهندس) عندما يشرع في الإعداد والإصلاح، وحينما ينتهي يمدحه الجميع، الزبون صاحب السيارة، والأسطى يونس صاحب الورشة، وباقي أقرانه الذين يكنون له مشاعر الحقد والحسد الممزوجة بالاحترام والتبجيل..
أما عن بثينة فهي كالندى فتاة رقيقة جميلة بريئة طاهرة، ذات مشاعر فياضة وقلب طفولي، تحب والديها وإخوتها بشغف، قد تبكي بكاءا مريرا لمجرد قراءة قصة حزينه عابرة، وقد تفرح حد النشوة لمجرد أن يتذكرها أحدهم بقطعة حلوى..
خلال أسابيع قليلة مقبلة سوف تكمل عامها العشرين، بثينة طالبة في عامها الأخير بكلية التربية. تمت خطبتها مذ ثلاثة سنوات لطبيب امتياز، وتم الاتفاق بين الأهلين على مد فترة الخطوبة حتى تنتهي الأخيرة من دراستها، بينما كان الجميع يعلم أن التأجيل يعود إلى أسباب أخرى تتعلق بتسوية معاش الأستاذ سيد وحصوله على مكافأة نهاية الخدمة.
يستيقظ سيد عبد الباسط في الثامنة صباحا بلا أي سبب، يحاول معاودة النوم مجددا ولكن بلا جدوى، شيئا ما يحول بينه وبين النوم يقرر على إثره أن ينهض من الفراش.. هذا ما يحدث كل يوم للأستاذ سيد منذ أن تقاعد…
يستيقظ مبكرا من كل يوم على ما جرت به العادة خلال عمره الطويل منذ أن خرج من قريته وهو في عشرينات العمر ليشق طريقه بين زحام الحياة وحتى آخر يوم له في وظيفته الحكومية قبل أن يبلغ الستين..
الأيام ثقيلة جدا بعد الستين، النهار طويل لا ينتهي، والليل يفقد طعمه ومعناه حينما لا يكون مرتهن بطلوع الصبح، يقضي الأستاذ سيد نهاره في مطالعة الصحف ومتابعة الأخبار ثم النزول للتسوق وإحضار احتياجات المنزل اليومية، ثم صلاة الظهر في المسجد والمكوث هناك مع رفاقه من المتقاعدين حتى موعد الغداء، حينما تأتي بثينة من الجامعة، ويعود عيسى من العمل، ويستيقظ محمود وإبراهيم من النوم، وتعد زينب مائدة الغداء..
ها هي الساعة الثانية والنصف ظهرا، يخرج سيد عبد الباسط من المسجد متجها ناحية منزله، يصعد السلم في بطء ثم يدير المفتاح بالباب ويدلف إلى صالة المنزل ليجد بثينة وزينب في المطبخ، بينما يجلس عيسى على المائدة يطالع أخبار إحدى الجرائد اليومية..
– مساء الخير يا أولاد..
– مساء النور يا حاج سيد “قالها عيسي مداعبا، بينما ردت بثينة بصوت ملائكي “مساء الخير يا بابا دقائق ويكون الأكل جاهز”..
“أيقظ الأولاد يا سيد”.. قالتها زوجته زينب وهي توزع أطباق الطعام على المائدة..
تجتمع الأسرة على مائدة الطعام ويبدأ عيسى بالحديث وهو يضع الجريدة جانبا متسائلا عن جدية أحد الأخبار التي وردت على لسان مسؤول كبير يؤكد تبني الدولة طرق إصلاحية جديدة في مجال العمل الحكومي، وأنها تتجه بأساليب عدة قدر المستطاع نحو الإكثار من حالات تسوية المعاشات المبكرة في محاولة منها لتوظيف شباب جدد وتجديد دم المصالح الحكومية..
زينب: كان الله في العون، الشباب كثير جدا والوظائف معدودة ولا تكفي إلا للقليل منهم..
سيد عبد الباسط: ومن قال لك يا زينب أن الوظائف معدودة، المصالح الحكومية بحاجة ماسة إلى تكثيف أعداد الموظفين وزيادتهم إلى الضعف على أقل تقدير، هذا إن كان هناك نية حقيقية في إصلاح تلك المصالح ومحاولة تغيير سياساتها الروتينية العقيمة..
موظف الحكومة الآن يعمل كالحمار الذي يحملونه بلا رحمة ما لا طاقة له به، وفي نهاية المطاف بكل برود يخبرونه بالتقاعد ويتصدقون عليه ببضعة آلاف من الجنيهات، كانوا يقتطعونها منه شهريا طوال مدة خدمته.
محمود: بمناسبة مكافأة نهاية الخدمة، ألم يحددوا موعد الصرف بعد! قالها وهو يدس ملعقته في طبق الأرز..
إبراهيم بضحكة ساخرة: المكافأة التي سوف تحل مشاكلنا جميعا.. يوافقه الأب بهزة رأس وهو يقول بالكاد تغطي زيجة أختكم بثينة..
الأم: نستر البنت أولا، ثم ما يفيض فهو لأخيكم الأكبر، عيسى علي وش زواج وقطار العمر يمضي ولابد أن نفرح به..
يتدخل محمود مستنكرا: وماذا عني وعن مستقبلي، على الأقل أنا لم أحظ بوظيفة ثابتة ولم أثبت في أي عمل حتى الآن، أليس من العدل أن تفكروا في وفي مستقبلي قليلا!
بثينة ببراءة في محاولة لتهدئة الأمور: أنا ما زلت صغيرة وليس هناك أي داع من تعجيل الزواج، يمكنني الانتظار سنة أخرى أو اثنين، أو..
الأم مقاطعة بغضب: ماذا تقولين، أتظنين أن وعود الرجال يمكن أن تذهب هكذا أدراج الرياح في لحظة غداء!
أنتي الابنة الوحيدة وإن عشنا اليوم لن نعيش غدا، ولا نملك فرصة أخرى غير مكافأة والدك.. المسألة منتهية، إتمام زيجتك أولا، ثم التفكير بعد ذلك في الخطوة التالية..
الأب بصوت جهوري مؤيدا ومنهيا للحديث في الوقت ذاته: من شيم الرجال التحمل والكد والسعي والصبر إلى أن تواتيهم الفرصة لتحقيق أحلامهم، وفي أسوأ الظروف إن لم يصلوا إليها فلا ضير، تكفيهم قدرتهم على الاكتفاء وعدم الحاجة، أما النساء فضعيفات لا حول لهن ولا قوة.. تتزوج بثينة أولا ثم نتحدث بعد ذلك. يسكت الجميع ويسود الصمت إلا من أصوات المضغ والبلع ونقرات المعالق وهي تندس في الأطباق..
والحق أن الجميع كانوا على صواب، الأب والأم لابد أن يطمئنوا على مستقبل الابنة الوحيدة، وعيسى قد تجاوز الاثنين وثلاثين عاما، وقطار العمر يمضي به مسرعا، ولا أمل مرجو من دخل الوظيفة وحدها، لابد من دفعة إلى الأمام فكان أمله كبير في المكافأة، وهو يرى أيضا مثلما يرى أخاه محمود أنهم قد تعجلوا في موضوع أختهم بثينة، فهي صغيرة ما زالت في العشرين من عمرها وجميلة لن يكف العرسان عن طلبها، ألم يكن من الحكمة التمهل وعدم التسرع!
ونسرين زميلته في العمل إلى متى سيظل يراوغها ويتلاعب بها في محاولات منه لإبقائها في حوزته أطول وقت ممكن، وفي الوقت ذاته لا يستطيع التصريح أو التعهد أمامها بشيء ما دامت أقدامه في الهواء حتى الآن..
محمود أيضا يرى أنه أقل حظا من أخويه وأحق بالمساندة، يشعر بنفسه في العراء وأنه بلا مستقبل، يحاول كثيرا ويسعى جاهدا ثم تذهب كل محاولاته سدى، لا يملك وظيفة ثابتة كعيسى ولا صاحب حرفة كإبراهيم،
ليس الزواج هو هدفه المرحلي كعيسى، عيسى منضبط يملك زمام نفسه ويسيطر على رغباته ولذلك فهو يتعجل الزواج.
أما محمود فمراوغ، يعرف هذه ويخرج مع تلك، يقضي وقتا لطيفا مع ناهد، ثم يقع في غرام فاتن، ويشعر بالاحتياج تارة نحو ليلى، وبالحب تارة نحو سميرة، وهكذا هو ديدنه، مشاعر متقلبه وإشباع دائم للنزوات ونسوة كثيرات يملأن حياته..
مشكلته الوحيدة أنه يريد أن يصل إلى بر الأمان، يحقق ذاته ويجد نفسه ويصنع مستقبله، وكان يأمل في مبلغ من المكافأة يشارك به بعض أصدقائه من المؤلفين والمخرجين والممثلين لتكوين فرقة مسرحية بفكر جديد وأسلوب جديد وأمل جديد..
أما إبراهيم فيبدو أنه أكثرهم زهدا في هذه المكافأة، ربما لأنه أصغرهم عمرا وأكبرهم دخلا، وربما لأنه صنع مستقبله واستراح، ولكن سرعان ما يتبدد هذا حتما حينما يخلو بنفسه.. ثمة هدف يراوده بضراوة، “ألفت” ابنة المعلم يونس، الفتاة المدللة التي أوقعته في شركها منذ أول يوم رآها، وكلما كانت تأتي لزيارة والدها كان قلبه يقفز طربا لرؤيتها، ها هي الآن صارت عروس فاتنة وقد يطرق بابها العرسان في أي وقت، وحلمه الآخر بأن يمتلك ورشة صغيره يضع فيها فكره ومهاراته وفنه، بدلا من عمله اليومي في ورش الآخرين بالأجرة، مهما حاول التظاهر بعدم الاكتراث فهو يمني النفس بجزء من تلك المكافأة يقطع به شوطا كبيرا نحو إحدى هدفيه..
ذات صباح يتسلم الأستاذ سيد الشيك الخاص بمكافأة نهاية الخدمة، ويهرع إلى أحد البنوك لصرف المبلغ، المبلغ أكبر بكثير مما اعتقد الجميع.. يضع المبلغ في الحقيبة ويحكم إغلاقها ثم ينطلق ليستقل سيارة أجرة مخصوص، يخرج هاتفه النقال ثم يتصل بالمنزل يزف إليهم النبأ السعيد..
طوال الطريق يفكر في فرحة زوجته والأولاد عند وصوله المنزل، يخيل إليه أنه يرى بثينة في فستانها الأبيض وهي تشبك يدها في ذراعه مخترقا بها الجموع نحو عريسها المنتظر، يربت على يد زوجها الشاب الطبيب ويقول له دامعا: بثينة هذه قطعة من قلبي، حافظ عليها بني..
يفكر في زينب زوجته الوفية ورفيقة دربه وهي جالسة تفترش الفراش وتفرغ حقيبة النقود أمامها ثم تخرج مبلغا كبيرا تم حسبته بدقة من قبل وتقول هذا لزيجة بثينة..
ثم توزع الباقي في أظرف وتحكم إغلاقها، وتقول هذا نصيب عيسى وتضعه جانبا، ثم هذا نصيب محمود، وهذا نصيب إبراهيم.. ثم تنفض يدها في سعادة وتقول لم يتبقَ لنا شيء يا سيد! فيجيب بابتسامة دامعة: لا يهم يا زينب لقد زهدنا في الحياة منذ أن شب الأولاد، والحمد لله أننا أدينا ما علينا..
يخرج سائق السيارة لفافة تبغ من جيب قميصه ثم يلتقط القداحة من الدرج ويخفض رأسه ليشعل اللفافة، ينتهي من إشعالها ثم يرفع رأسه ليتفاجأ بانحراف السيارة وخروجها عن المسار، يحاول إعادتها فتقفز هاربة من أثر السرعة والتوجيه المفاجئ، وفي لحظات يفقد السائق السيطرة فتندفع منطلقة نحو سيارة نقل ثقيلة بالاتجاه المقابل، يمتقع وجه الأستاذ سيد، ويحتضن حقيبته بشدة وتزوغ عيناه ويعلو صوته: حاسب يا أسطى حاسب ..!
بعد أسابيع قضاها الأستاذ سيد في غرفة العناية المركزة، يرقد على سريره بإحدى غرف المشفى، يجتمع حوله أفراد أسرته المنكسرين، يستمعون إلى تحقيق رجال النيابة الذين يسألونه بعض الأسئلة عن إذا ما كان يذكر أي شيء بعد وقوع الحادث؟ في محاولة للعثور على أي خيط يصلهم بسارق حقيبة النقود التي كانت بحوزته وقت الحادث، فلا يذكر أي شيء..
ينهضوا للخروج ويبلغونه في أسى قبل أن ينسحبوا أن مهمة العثور على الحقيبة باتت مستحيلة ولكنهم سيبذلوا قصارى جهدهم للعثور عليها، يهز رأسه في انهزام ثم يغلق عينيه متظاهرا بالتعب والنوم في محاولة يائسة يتفادى بها نظرات أسرته المحطمة..
منذ أن أفاق من الحادث وهو حبيس مشاعر الحسرة والمرارة، ما زال لا يصدق حتى الآن، كل لحظة تمر عليه كانت تقتله بلا رحمه، وتسحقه بلا هوادة..
أحيانا يحدث نفسه بأن هذا كابوس ثقيل مصيره إلى الاستيقاظ، وأحيانا يهرب إلى النوم، لعل شيئا يتغير!
حاول الانخداع والهرب ولكنه فشل فشل مؤلما واستيقظ منهزما على يقين الحقيقة.. الحقيقة الباردة الصارمة..
ما هذا الضعف والشتات!
أهذا هو السراب الذي كانت جدتي دائما ما تخبرني أنها انتهت إليه بعد عمرها الطويل الذي جاوز التسعين؟
ليت هذا لم يحدث، ليتني في كابوس، ليتني فقدت الذاكرة، ليتني فقدت أنا ولم تفقد أسرتي الحقيبة، حقيبة آمالهم وأحلامهم!
أكان لابد أيها السائق أن تشعل لفافة التبغ!!