في زمنٍ سابق كنتُ أسعى لتوثيق علاقاتي وتدعيم أواصر المحبة بمن حولي وبشكلٍ واسعٍ، بجهدٍ مني كبير، وغالباً كان على حسابي وحساب راحتي، صفة سخيفة جداً خصوصاً في حال أنك لم ترها تُثمر ولا تُزهر ولو لمرة واحدة! لفترة طويلة حاولت أن أكون ذاك الشخص المرضي عنه من قِبل الجميع، جاهدت أن أحقق لكل شخص أمله المنتظر مني، تفانيت في ألا أخيب رجاء أحدهم، صارعت مراراً لأظل ذاك الشخص الجيد في نظرهم وفي المقابل تنازلت عن الكثير.
لم أستوعب يوماً أنني مُهدد من قِبَل الوقت، لقد بلغت أعتاب الثالثة وعشرين ربيعاً ولا زلت أتعامل كمن سيحيا مئة عام، لا زلت في الجامعة ولا أبالي بفكرة الوقت، في الحقيقة لم أنتبه أنه يجب عليّ الوصول في موعد ما تحديداً، ليس من المنطقي أن نحول الحياة إلى قطارات علينا اللحاق بها، إنني أرفض هذا.. باختصار لأنه شئ غير عادل، هناك من لا يحب اللحاق بالقطارات، هناك من لا يحب زحام القطارات وهناك من لا يلتزم بمواعيد القطارات ومحطاتها، أو لعلك ستعيش أكثر من راكبيه!
أول شعرة بيضاء تُخبرني أن هناك بعض الأمور التي لا بد لك أن تتعايش معها، لأنك في كل مرة تقاتلها سوف تهزمك، بل تقتلك! كل مرة تشعر بذات الخيبة الساحقة، تلك التي صفعتك مع أول هزيمة تباغتك في كل مرة كأنها المرة الأولى، كل مرة تشعر بذلك المذاق الكريه، مذاق دم أملك الذي أريق، ذاك الأمل الغبي في الحصول على نتيجة مختلفة عن المرات السابقة، كل مرة تختنق وأنت تحاول أن تشرح “المشروح” فتعيد وتزيد حتى تختنق بكلماتك وما يقابلها من ردود أفعال ككل مرة.
أول شعرة بيضاء تخبرني أنه حينما تكون الضحية يكون التسامح مع الجاني نوع من الخضوع، لا أستطيع فهم المتسامحين مع من ظلموهم أو خانوهم أو أهانوهم أو من استخفوا بشعورهم حتى وإن كانوا أقرب المقربين إليهم، لا أعتقد أن كسر الأرواح أمر هين، ولا أعتقد أن قتل الإنسان معنوياً بأي صفة وتحت أي مبرر أمر يمكن الصفح عنه، لا أعتقد أن البكاء ينتهي بتجفيف الدموع ولا أعتقد أن الذكري مجرد لحظة ماضية، هناك من تنتهي حياته بشيء فعلته أو قولته، والروح التي أُزهقت لا تعود!
من الغريب في الأمر أنه يصعب علي تذكر شعوري حينها، لكني أدرك جيداً أنه كان شعوراً مُؤلماً، اللحظات الأخيرة مع أي شخص غالباً ما تكون صادمة، كأنك لم تكن تعرف الذي أمامك أبداً، شخص مختلف تماماً عن الذي كنت تظن أنك تعرفه، شيء ما ينزع كل الحب منك، ما أصعب أن يشعر المرء أنه قد خُدع!
أول شعرة بيضاء تخبرني أن كل المبادئ التي تفانيت في تشييد قلاع وحصون حولها، بت الآن أتلذذ بهدم قلاعها وحصونها، كل الأشخاص الذين تعلقت بهم وظننتهم مُثل باتت ذكراهم تترنح بين البغض والألم، كل الأمنيات التي لطالما أشتهيتها باتت لا تسيل لعابي، كل مسببات السعادة التي حفرت نفسها بجدران قلبي باتت رفاتًا هي وقلبي وجدرانه!
أول شعرة بيضاء تخبرني أنني على الطريق الخطأ، رغم أنني أعرف هذا جيداً وأعرف أن الحالة التي وصلت إليها لا تناسب ربيع شبابي، أدرك مدى خطورة استمراري في هذه اللامبالاة، ومتأكد أن لا أحد غيري سيتحمل توابع هذا الطريق، أحفظ قصص الأمل عن ظهر قلب وبإمكاني أن أسردها جميعها وأخبرك بسوداوية المستقبل الذي ينتظرني لمجرد أنني أتكاسل عن اتخاذ خطوة واحدة في الحاضر.
أحلامنا لم تكن وهماً لكنها هُمشت، رغم أننا لم نتشبث يومًا بتلابيب الماضي الذي ترهبنا ملامحه، حتى ذلك المستقبل بتفاصيله المبهمة لم يكن ليستهوي فضولنا، نتحسسه بأطراف مرتعشة، ونقف في ذاك المنتصف المميت بين الماضي والمستقبل، شعور ما غريب يسيطر على الحالة برمتها، فعلياً لا أستطيع الجزم بأني أقوم بأي شيء وفي حقيقة الأمر مرهق وكأنني أحارب ألف شيء، مُتعب للغاية من أشياء كثيرة، ربما لا وجود لها سوى في خيالي، ومع هذا لا رغبة لديّ في التغيير رغم أنني من داخلي أرفض وألعن وأتمنى الخلاص من هذه الحالة، لكنني أعجز عن فعل أي شيء.
أول شعرة بيضاء تخبرني كم مرة هزمتني الصدمة، الخيانة والخذلان بدون الدخول في أي قتال، كم مرة ناجيت ضعفي وحزني الغائر وصمتي الرتيب، ناجيت الألم واليأس، عاتبت وحدتي أحيانًا لاختلاسها أثمن لحظات أُنسى وداعبتها كثيرًا لحمايتها لي من خبث البشر، لم نخسر علاقاتنا عادة بمشاكل كبيرة حاسمة، بل خسرناها بتراكم الخيبات!
أول شعرة بيضاء تخبرني كيف أقول “وداعًا” للأشخاص الذين اخترقوا روحي ووصلوا إلي لب قلبي، وتلك الأمور التي أحبها وأفنيت عليها من عمري وجهدي الكثير، تخبرني كيف أودع أحلامي وأتنازل عن طموحاتي التي أشعر بالخزي الكبير تجاه التخلي عنها لأتحمل بدل عنها مسؤولية أن أصبح النسخة الجديدة منهم، مسؤوليات لم تكن يوماً بحُسباني! تخبرني كيف أودع كل هذا بدون أن يكون بطريقة مأساوية، بلا بكاء ملموس لثلاث ساعات، بلا بكاء محسوس في القلب، يمتد العمر كله!
مع مرور الوقت وبصحبة أول شعرة بيضاء يتسلل الأمل من داخلي في أن يساعدني أحد لأتخلص من مخاوفي، أو علي الأقل يطمئنني، وأصبح أعلى ما أطمح إليه الآن هو أن من حولي يتفهّموا خوفي، وليس بالضرورة حتى أن يفهموه.