منذ أن وعَى الإنسان وهو يستقبل معلومات لا تُعدّ ولا تُحصى ولكي لا تتراكم عليه ولا تتكدّس وجد طريقة عقليّـة تساعده في عملية الفرز والغربلة، فتعلّم المعلومات التي لم يكن يعلمها وكذلك علم الأسماء كلها وتعلّم خصائصها، وهذا كلّه بفضل القلم الذي تعلّم وعلِم به، فلولاه لمات الإنسان غرقا في بحر المعرفة، ولتكدّست المعلومات حوله، لتتحوّل إلى أصـنام وأوثـان تُعبد وتُقدّس فلا يكون بمقدورنا التخلّص منها، فبعد أنّ تمّ تعليم الإنسان بالقلم كلّ الأسماء التي ستساعده في مهمة الاستخلاف في الأرض، تنقّل وانتشر مُهاجِراً في كامل أنحاء الأرض، لتَبدأ حياته في التطـوّر بشكلٍ منتظم إلى غاية بناء المعابد وصناعة الأكفان التي بها تمّ تحنيط المعرفة، وتغليف عملية التفكير بثوب المقدّسات..
من هنا ظهرت الأصـنام، وتم ابتكار الفنّ الذي يقوم بنحتها، وظهر الكهنة الذين تصدُّوا لمهمة نحت الأسمـاء وإطـلاقها على الأصنام بأنـواعها، ومع مرور السنين عاد بالإنسان الحنينُ إلى حبِّ الاغتراف من بحر المعرفة، بعد أن شاخ وهو قابع في بحيرة راكدة، مُوحشة ومُظلمة، لكنّه اصطدم بتحديات كبرى، فهالَه صلابة الأصنام العظمى، التي أعاقت وصوله إلى بحار المعرفة، فقـرّر تحطيمها وكسرها بالأدوات المتاحة لديه.
كان تحطيم الأصنام مِن طرف الإنسان حلاًّ ناجعاً، وللكاهن خبراً فاجعاً، فكانت الضريبة باهظة جدّاً تتراوح بين القتل والنفي والحَجر، ولهذا فإنّ أول ضريبة في التّاريخ الإنساني كانت ضريبة فكريّة وليست مالية، فتوالت الضربات الموجعة للأصنام، وتواترت الأخبار المفجعة للكهنة، فتسارعت وتيرة صناعة الأصنام، وسُنّت قوانين تمنع ازدراء الأوثان، وتمّ بناء المعابد فوق أنقاض المساجد.
ازداد عطش الإنسان وحُبّـه للشرب من بحار الحكمة، فاحتاط الكاهن وقرر زيادة انتاج أكفان تحنيط المعرفة، فقُرعت طبول الحربِ، وتم إعلان موت الحبِّ، مُنع الكلام، وسُفّهت الأحلام، وسُجن الإنسان في الظلام، فتطوّرت أسلحة القتال، واخترعت أدوات الجدال، سِهام ونِبال، سلالم وحِبال، والصّراع قائم إلى يومنا هذا لا يزال، فتغيرت استراتيجيات الإنسان القابع في الكهوف، فهو يريد الخروج إلى حيث النُّور هروباً من جحيم الظلمات، لكنّ بوابة الكهف كانت مصنوعةً من أعتى الأصنام وأشدِّها بأساً، محنَّطةً بقوانين المعبد ودساتيره الصارمة ومحاطَة بأسلاك كهربائية قاتلة.
مِعول الهدم لا يُجدي، وفأس التحطيم لا ينفع، لم نستطع له نقباً، ظاهرياً القضية ميئوس منها، وعقليا الظلمات لا مفر منها، لهذا سيستعين الإنسان بسلاحه القديم، والذي به سيُجيد عملية التهديم، لكنّ هذه المرّة سيتجاوز الأصنام، وسيجد ثغرات في قوانين المعبد الصارمة، ويَقوم بقطع الكهرباء عن الأسلاك القاتلة، ويقوم بخرق وحرق أكفان تحنيط المعرفة، وسيستعين أيضاً بالمداد لزعزعة عرش فرعون ذي الأوتاد، وإن انتهى المِداد سيَنقش بالقلم في الصخور، حتى وإن حاول الكهنة خنقه بروائح البخور.
سيقوم بحفريات بالقلم، ولن يستعين بعبارة (افتح يا سمسم)، سيحفر ويحفر ثمّ يحفر حتى يُزيل بوابة الكهف فيدخل شُعاع النُّور أو يخرج هو إليه، فهي حفريات طفيفة، بالنسبة للكاهن سخيفة، ولصبيتهم طريفة، ولذوي العقول هي رصينة، لهذا سنحفِر النُّصوص بجُملها وألفاظِها وكلماتها وكذلك حروفها لعلّنا نستخرج منها ما ندكُّ به بوابة الكهف دكّاً، فنَخرج إلى النور أفواجاً..
نعلَم أنَّ القلم سلاحٌ ضعيف من أوّل وهلةٍ، لكنّ الحرف الذي يخطّه قـويّ البُنية، عظيم الهمّة، شجاعٌ مقدامٌ ثاقب الرؤيــة، يصلح للمهمات الصّـعبة، وأيضا لاسـتغفال العامّة، دون أن ننسى أنّـه أيضا يُستخدم لزعزعة عروش الخاصّـة، فهو للظلام نـور، يقوم بإنارة الكهوف وسبر الأغوار، كذلك يقوم بتسطير الأخبار، بين العلم والجهل يختار، وأمام المعرفة يحتار، لكنّه أمام العلم يستلّ سيفه الـبتّار..
ولهذا نحن لا تُخيفنا قدسيّة النصوصْ، فلسنا لصوصْ…