جلست بجانبي على مقعد الحافلة العامة وهي ترتدي اللون الأسود، لا يظهر من جسمها إلا عيناها الخضراوتان، أخذت تتصفح النت على هاتفها الذكي، وأوّل ما خطر على ذهني عندما رأيتها هو: لِمَ لم تجلس بجانب تلك الفتاة؟ إذ كان هناك فتاة بالجهة المقابلة لي تجلس وحيدة، لِمَ لم تجلس هذه المنقبة صاحبة البرقع بجانب تلك الفتاة إذن، ما دام أنها ملتزمة بدينها إلى هذا الحد، إلى درجة تغليف نفسها بثوب أسود بالكامل من الرأس وحتى أخمص القدميْن في هذا الجوّ الحار! وسرعان ما خطرت لي الإجابة: هي تفضل أن تجلس بجانب شاب يبدو عليه الوقار وهادئ الطبع على أن تجلس بجانب فتاة “متبرجة”، يا سلام على هذه العبقرية اللاهوتية.
من مظهرها وهي تتصفح صفحات الموقع الأزرق “الفيسبوك – واجهة الكتاب” اعتقدتُ أنني أحلم بداية، أو ليس هؤلاء البشر هم أشدّ أعداء الحضارة الغربية (الكافرة)؟ عَجَبًـا! لِمَ تستعمل آلاتهم إذن؟ أو معاداة الغرب عند هؤلاء هو في اللباس فقط؟ كم احترتُ وأنا أجلس بجانب تلك الفتاة في تلك الحافلة، وكأنني أجلس بجانب فرد تائه لا علاقة له بالزمن من جهة وهو في عمق الزمن من ناحية أخرى.
ثم خطر ببالي سؤال مهمّ للغاية: ما دام هؤلاء يدعون بأنّهم يقلدون ويقتدون بالسلف الصالح أصحاب رسول الله ونسائهم والنبي محمد ذاته وزيجاته! فهل تلك النسوة من أشراف المسلمين كنّ يلبسن السواد؟ هل عشق النبي محمّد عليه السلام أمنا عائشة رضي الله عنها وهي تلبس الأسود من رأسها حتى أخمص أقدامها؟ “شخصيـا: لا أعتقد”؛ عندما فتح المسلمون الأندلس وبلاد فارس، هل بشّروا نساء تلك البلدان بالسواد؟
أذكر جيّدا وأنا صغير أنّ جدّتي (Моя бабушка) رحمها الله لم ترتدِ السواد أبدا، كانت تلبس عباءة بيضاء على الطريقة المغاربية والجزائرية التقليدية بالخصوص، وتضع فوق رأسها غطاء أحيانا يتسع إن ما خرجت من البيت، وجهها كان مكشوفا تماما، بل لقد كانت تضع وشما جميلا يزيّن وجهها الأبيض الناصع، وكان متجانسا للغاية مع عيناها الزرقاوتان اللتان سحرتا جدّي رحمة الله عليه أثناء شبابه، فهل جدّتي كانت متبرجة؟
لا وألف لا، كانت من أطهر النساء، تصلي أوقاتها في مواقيت يومها كما أمر الله عز وجلّ، وكانت صاحبة خير وفير لا تتردّد في البذل والمنح، وكانت رحمة الله عليها أبهى البشر، إذ كان حديثها النادر عبارات عن قصص هادفة ومعبّرة، وكانت كثيرة الصمت لأنها لم تكن تحبّ النميمة، وكانت لا تفارق صيام رمضان أبدا بل كان هذا الشهر بالنسبة إليها احتفالية كبرى تشارك العائلة والجيران وبعض الصديقات الحلويات والمأكولات فيه، حتى كلبها الوفي كان ينتظرها كل ليلة أمام الباب لأنها لم تلغ أبدا موعد عشائه مدى حياتها كلها، كانت أنيقة للغاية، وفصيحة جدّا، وتكره النفاق والرياء والكذب كرها يكاد يكون مقتا لولا قلبها النقي.
من موقعي الآن وبعدما صادفتُ تلك الفتاة صاحبة البرقع، مع احترامي الكامل للبرقع؛ فكوني لبيرالي أعتبر هذا حرية شخصية لا علاقة لي بها، لكن يبقى لي حق التعليق وإبداء رأيي فيه، إذ أن تلك الحافلة وهي تهتز عبر طرقات مدينتي المهترئة، جعلت تلك الفتاة تتمايل كثيرا وهي بجانبي نظرا لظروف الفيزياء والجاذبية، وهذا أتاح لي “لو كنتُ ماكرا كفاية”، لمس مناطق حساسة من جسدها، وأعترف أنني لم أفعل لأنّ عقلي لا يسمح بنزولي لذاك المستوى، فما الذي يمنعه ذاك السواد أمام متحرّش حيواني محترف؟
جداتنا رحمة الله عليهن، ورغم أميتهنّ المعروفة، إلاّ أنّهنّ قد فهمن الدين أكثر منا بكثير، جعلوه حياة وممارسة، جدّتي رحمة الله عليها لم تسافر أبدا بدون زوجها “المحرم” وهو على قيد الحياة، وبعد وفاته رحمه الله سافرت برفقة أبنائها الذين لعبوا دور “المحرم” الحامي بالنسبة لها، ولم تكن متبرجة أبدا، بل كانت تلبس برقع العفة والشرف والرفعة والسمو، كلّ هذا بلا سواد.