إليه يصل الكلام الطيب

من أغرب اﻷشياء التي يمكن أن تحدث ببساطة في عصرنا هذا، أن باﻹمكان أن لا تلتقي بتاتا بجارك الذي لا يفصلك عنه سوى جدار إسمنتي يغدو كالبوق؛ يُسمع ما يصول ويجول بالجوار.. هنا حيث تأكل في مطبخ جارك وتستمع لمشاكله لحظة دخوله وخروجه من المنزل إلخ..

هكذا صرنا قريبين جدا بعيدين كل البعد، شاء تداول اﻷيام أن ألتقي ذات صباح بجار لي لم أرَ وجهه على مدار سنتين من سكناي في منزلي الجديد، لم أكن أسمع سوى صراخه في وجه ذويه، لكن حدث والتقينا بمدخل الباب فقلت “السلام عليكم ورحمة الله”، كان صدى العبارة رنان وسط سكون الصباح ولربما حتى المكان لم يعتد سماع صوتي إلا من همهمات موسيقية، جرت العادة أن إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، تلك الكلمة الطيبة جعلت الجار يطالعني فاغر الفاه ويسهب في ذلك حتى كدت أسيء الظن به، فجاء الخلاص بابتسامة منه ورد التحية.

لكن الموقف أثار في داخلي شيئا ما وجعلني أتفكر بجدية في أثر الكلام الطيب من قبيل التحية، طبعا الموقف الذي قادني لذلك محرج إن لم أقل مخجل، لقد صارت التحية غريبة في معاملتنا حتى إذا ألقيتها على أحدهم بدت على محياه علامات الاستغراب وسؤال عفوي هل تعرفني؟

ترى يا صديقي القارئ أأحتاج لمعرفتك حتى أحييك؟ فطرتك طبعا ستجيب بلا، إذن دعني ألقي عليك السلام يا صديق.

موقف الجار أكد لي القول الذي يخالجني منذ زمن، أن ثمة حتما خلل في فهمنا لمقصد الكلام ومعانيه المختبئة بين ثنايا اﻷحرف، عن نفسي يؤسفني حقا ما آل إليه الجوار في زمننا هذا، وهذا كلام شاب لا زال في ريعان الشباب إلا أن احتكاكي ونشأتي بالعالم القروي يجعلني اضطراريا أضع نصب أعيني زمن غير بعيد تألفت فيه القلوب بجميع أطيافها والمنازل كانت تسع الجميع، تبوح وتفوح بما جاد من الطيبات..

الجارة كانت بمثابة اﻷم الثانية لحظة غياب اﻷم البيولوجية، وعلى هذا المنوال كان العم اﻷب الثاني واﻷطفال إخوة متحابين، بل وإخوانا في الرضاعة في لحظات لم تكن عارضة.. كل ما قيل ما هو إلا جرد لسلسلة من المفقودات حتى نوضع في الصورة ونبحث عن القاطرة التي تقود هاته المفقودات إلى المجهول..

ضعف التواصل وغيابه جملة وتفصيلا ربان هاته السلسلة وقائدها نحو المجهول، فغاب البلسم السحري الذي يجبر الخواطر، ويؤلف القلوب، ويجمع الشمل، ويؤنس التجمعات والحلقيات، بلسم لقول أو فعل صدر عن غير قصد بلسم لردة فعل متسرعة، بلسم يلغي اﻷحكام المسبقة والجاهزة، بلسم لرؤيا عميقة في دواخل الناس تكشف معدنهم الطيب اﻷصيل. اﻹحالة بالبلسم هنا للكلام الطيب، قد يحضر التواصل لكن؛ من دون كلام طيب حواراتنا بكافة تلاوينها عجفاء وأرض بور تحتاج لغيث نافع، رب كلام نافع.

ومن باب الذكر لا الحصر أقول تأريخا أن حتى قساة القلوب لم يجدوا بدّاً من التفاعل مع الكلام الطيب بل وكان مدخلا لنتائج حمدت عقباها، أقف في هذا السياق عند التوجيه الرباني لموسى وأخيه هارون “اذهبا إلى فرعون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”، قولا لينا لمن بلغ جبروته حد القول أنا ربكم اﻷعلى، وقوله اﻵخر “أليس لي ملك مصر وهذه اﻷنهار تجري من تحتي”، وكان ما كان من تداول للكلام بينهم ومن حلبة الصراع التي كان سلاحها بادئ اﻷمر قولا لينا، ألقي السحرة ساجدين بعد الاسترسال في القول والفعل بالصيغة التي أوكلت لموسى وهارون “قولا لينا”.

وحتى لا ننتهم بحصر الكلام الطيب في زاوية بعينها فكل كلام يلامس شغاف القلوب صالح ليندرج في زمرة الكلام الطيب على شاكلة التحية وردها، الاعتذار والشكر وعبارات الامتنان والثناء والنصح..

ولقد كان لي درس وعبرة في لقياي بإحدى اﻷسر الغربية، الذين ضايفتهم بقريتي في الجنوب، قبيل تناولنا وجبة الغداء التي عرفت تأخيرا وتذمرا منا جميعا، حينها طلبت منا اﻷم كاترين أن نرسم قمرا في الهواء بدءا بصغارها طبعا، كان ذالك تكتيك لقتل الوقت الميت أصلا.. وانخرطنا في اﻹحالة في الهواء بسكين اﻷكل والقاعدة تقول أنه على كل واحد منا تمرير أداة الرسم لزميله، مضت الثواني واستغربنا جميعا من عدم حصولنا على علامة التميز رغم أن اﻷمر يبدو أسهل من شرب الماء، فأدرك الابن البكر كلمة السر وقبل أن يرسم قمره في الهواء رسمه على شفاهه بشكره لمن مده بأداة الرسم، أي نعم هكذا يعلمون أبناءهم عدم نسيان كلمات الشكر والامتنان..

لا أخفيكم أن لحظتها بلغ بي الاندهاش مداه، فثقافتي بعيدة كل البعد أن تصنع إنسانا بيداغوجيا إلى ذالك الحد، أعلم وأتعلم كلام طيب بتلك الكيفية التي أنستنا تأخر وجبة الغذاء، والموقف هذا يؤكد أننا كبشر بحاجة للتعايش والتواصل اﻹيجابي في هاته الحياة.

الحياة بذاتها كلمة طيبة لو تأملناها في عمقها وشموليتها، فهي من إحياء الشيء، لها نتزين ونلبس أرفع الماركات لنظهر بأبهى الحلل، ولا نختار بسهو أو بعادة كلمات ثمنها قليل أو تكاد تكون بالمجان، ثمن رمزي لا يساوي سوى تحريك لملكة فكر، أُنعم علينا بها، وتحريك لملكة لغوية أُنعم علينا بها هي اﻷخرى لنؤسس، ونحيي حواراتنا اليومية ونعيدها لمسارها؛ لتكون حوارات قلوب نتداول فيها كلمات طيبة، تحرك شغاف القلب، فإليه يصل الكلام الطيب.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version