هي لحظة، جزءٌ من الثانية.. انقلبَ ذلك الشيء الثقيل (في داخله) رأساً على عقب.. لا؛ لم يحملهُ ليُدرك حقيقةَ ثُقلهُ حتى ولم يرهُ، لكنهُ ثقيلٌ، قاسٍ وكفى.. موجودٌ دائماً.. يخمد لفترات قد تطول ولكنه في جزء من الثانية يشتعل بقوةٍ.
يسمعهُ يُنادي بصوتٍ يطغى على كل شيء، صوتٌ لا يُسمع إلّا في لحظات الهدوء التامّ، عند إظلام المكان تماماً (يتناول مُجمل كلامهُ) مُحفزات التوتر والقَلق وبسرعةٍ يَصل كل شيء للذروة، وعند الذروة يجد نفسهُ كالذي وَقف عند حافةِ جُرفٍ ساحق ووراءه قوةٌ لا تُغالب تحثّهُ على الإقدام ومواجهة الهاوية بالارتماء والهبوط نحو الموت الحتميّ..
منذُ لحظات عاد إليه وعيه، صَحا تماماً لكنهُ واهنٌ لا يَقوى على أن يُبعد غطاءهُ ويقوم.. انعكسَ ثُقل نفسهِ على كل شيء حوله، فصارَ اللحاف كصفيحةٍ اسمنتية، والنوافذ التي تخترق ظلام الغرفة بلونها الأبيض تحولّت لكرهٍ لا يُغالب، بَزغ هذا الكُره من أعماق نفسه، هاجمتهُ الأفكار، المشاهد والصور، الأحداث وحتى الأصوات..، حاصرتهُ تلك التي ظَهرت بهيئاتٍ وأشكالٍ فظيعةٍ..
قامَ باندفاعةٍ شرسة، وكانت نفسهُ لم تزل تحت وطأةِ الشعور بالوَهن الشديد، تذكر (لا يدري لمَ) شخصاً لا يعرفه إلّا شكلاً لم يرهُ سوى مراتٍ قليلة، هو رجلٌ قد تجاوز سن الشباب، لكنهُ “طيب” بل ساذج، وجههُ يُنبئ بهذا قبل كل شيء، في صبيحةٍ ديسمبريةٍ شديدة البرودة وَجدهُ هارباً مرعوباً من خطر حقيقي، لكن صاحبنا أيقن أنهُ لا يخاف إلّا من الحياة وليسَ من أخطارها، لأنه يحيا “الرُعب”.
وقفَ أمام المرآة، وجهه “مُتجهم” جرّاء نومهُ.. لكنهُ أحسّ بتبدلٍ خارق، بعد أن غسل وجهه بالماء الذي تدفق من الصنبور، كان لصوت الماء المُنهمر أثراً في إخماد بعضاً من اشتعال ذاك الثُقل، رفع رأسهُ المُنحني ونظر للمرآة مُجدداً ومسح قطرات الماء وبدا وجهه جميلاً، يبعثُ في نفسه إحساساً جديداً.
ولأن الصباح ولادةٌ جديدة، راحَ الوجود ينبعث في الأرجاء.. الإظلام قد تبدد، وبدت الغرفةُ التي كانت قبل قليل “مُتجهمه”.. بَدت وكأنها جديدة غير التي كانت!
والنوافذ تلّونت بما وراءها، ليس البياض الذي يزيدُ وحشة الظلام، إنما زرقة السماء وأشجارٌ خضراء نضرة، وضوء الشمس يجعل كل شيء (خيّرٌ) في النفس.. خَرج للحياة بعد دقائق الاستعداد التي يشوبها الاندفاع والتردد والاستعجال..
خَرج، وجَمد أمام الباب وهو يُمسك بيده المِقبض.. عاد الصوت، عادَ صارخاً، نافذاً.. كأن كل الأصوات اختفت، حتى صوتُ حركة سير السيارات الدائمة.. وبقيّ هو الصوت الوحيد، في البدايةِ لفحهُ الهواء البارد.. ومن ثم انبعث ذلك الصوت، يُردد بوضوح ما هو “مُبهم” لكنهُ فظيعٌ لا يُحتمل.. يُذكّره بأن “لا تنسى مأساةُ وجودك، كيف لك أن تنسى تلك المشاهد والصور؟ لم تنتهي بعدُ من كل الشيء! عليكَ أن تتذكر، أن تهتم، خصوصاً أن لا تنسى..!”
لكنه الآن يحسُّ وكأنه قادرٌ على إخماد ذلك الصوت حتى وإن بقيّ صداهُ يدويّ في أعماقه الخاويةُ، كبيتٍ مهجور نوافذه مُشرعه، وبابه مفتوحٌ على مصراعية، وهو “البيت” متروكٌ على تلك الحال في ذروةِ عاصفةٍ هوجاء، جعلت من النهار مُظلماً، داكناً، وكان لإندفاع الهواء من تلك النوافذ صوتاً يُشبه صفيرَ أُذنيه الآن، و”خشخشةً” مُستفزة تخترق رأسهُ، وفي ناصيةِ رأسهِ فراغٌ وحرارةٌُ تشبه ما قد يعتري من بَذل جُهداً ذهنياً لفترةٍ ليست قصيرة، وكأن “سلكاً” حديدياً قد شُدّ حول رأسهِ بإحكام..
استدار؛ ونزل نحو الرصيف.. يحسُّ وكأنه مربوطٌ بحبلٍ يُشدُ من قوةٍ لا يملك إزاءها إلّا الاستسلام والانقياد.. ومن رأى وجهه في تلك اللحظة لشاهد ابتسامةً مُشعه.. لرأى إنساناً “طبيعياً”.. يمشي ككل الماشين نحو غاياتهم، بل ويبدو هادئاً بشكل لافت، ثقيلةً تلك الابتسامة على نفسه، لكنها تجعل صاحبها مُتماسكاً.. تُخفي ما قد هُدّم وما زال إلى أن يشاء الله.