الأستاذ وعدالة الديكتاتور

جمعني منذ فترة حديث مع أستاذ جامعي كان قد درسني في وقت سابق، ما أزال أذكره وما يزال يذكرني بالمثل. كان حديثا صريحا ولم أتوقع في البداية قط أن يكون كذلك، انطباعي الراسخ عن هذا الأستاذ يقف عند تشكيكه الدائم في جدوى الخوض بالأحاديث، شبع أو ملّ، شيء من هذا القبيل.

على هذا الأساس توقعتُ مسارا عقيما لتجاذباتنا منذ البداية لكن الذي حدث أنه استرسل في الكلام، استحضر بشفافية ومضات من تاريخه الخاص وعبرّ بصدق عن رأيه في زملائه وفي الجامعة وفي أشياء أخرى..

هذا الأستاذ ما يزال يعتقد أنني نقابي أو سياسي وللمرة المائة دحضت فكرته تلك ووضحت له أنني أعتقد باقتناع شديد أنه إن كانت هنالك قضية عادلة تستوجبّ المتابعة والنضال فمن الخنوع والجور تجاوزها، والمسألة على هذا الأساس ليست مرتبطة بالسياسة أو النقابة أو جلول أو قدور بقدر ما تعبرّ عن الحيّز الإنساني الذي يسكننا جميعا، بينما لا نسكنه بالقدر ذاته.

في ظل الأوضاع الراهنة المأزومة؛ من السهل، ومن الطبيعي كذلك على أي حديث بين أي طرفين أن ينساق الى المعمعان السياسي، اعتقادي دوما أن الخوض في السياسة خوض في المصير، وبالفعل لم نحد  -أنا والأستاذ- عن ذلك ولعل جوهر ما تطرقنا له “إشكالية الديكتاتور” مسألة مهمة ومثيرة ما تزال مغيّبة عن تقييمات الأوساط الشعبية للشأن العام الجزائري، مرد ذلك أنه لا نملك في تاريخنا المعاصر تجربة ديمقراطية مغايرة تصلح للمقارنة ومنه تغيب الرؤية ويغيب الحكم.

الأستاذ ربط بين الديكتاتورية والحيف والفساد وقال أنه يرحبّ بفكرة الديكتاتور العادل “المهم يكونْ عادلْ”.

استغربتُ الفكرة وقلتُ أن الديكتاتور لا يمكن أن يكون عادلا، حتى وإن أراد العدل فلن يتسنى له ذلك بأية حال. إن كان مقياسنا للديكتاتورية هو فترة الحكم مثلا فالديمقراطيات الغربية فككت اللغم وأغلب دساتيرها تنصّ على ألا تزيد عهدات الرئيس عن عهدتين، لأن أكثر من ذلك يعني بداية “تجذير” عشّ الرئيس بما يوفر المناخ لتفريخ الفساد بالتوازي مع كبر الحاشية والمحيط وترسيخ مفهوم الدولة العميقة بغموضها المقلق وهذا يمثل ضربة قاسية لمبدأ تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وهشّ لدولة القانون، ثم ماذا سيأتي؟ الاستبداد والقمع والأمراض الاقتصادية ودفاع مستميت عن الوهم..

أكثر ما يدعو للتفكير هو سؤال من أين يأتي الديكتاتور بحافز البقاء والدافع القوي للتشبث بالحكم؟

كيف يصنع اعتقاده بعدالة ما يحمله من قضايا ويربيه بعناية حتى يُمسي غريزة؟

أغلبّ الظن أن للديكتاتورية فترات طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، مرحلتا الطفولة والشباب تكونان قد اكتملتا حتى قبل أن يتقلد الديكتاتور مناصب المسؤولية، وفي فترة الشيخوخة تكون نفسية الديكتاتور مقارعة لفكرة الآلهة والأنبياء ويصبح مسكونا بتخاريف عميقة تكون قد بدأت في التكوّن مذ بواكير حياة الديكتاتورية الحافلة، ولنا في معمر القذافي نموذجا، على هذا الأساس يسهل للوهم أن ينفلت من قفص الخداع ويكون دافعا غريزيا لخوض حروب البقاء والتشبث.

في عام 1966 قام محارب سابق في الجيش الفرنسي يُدعى جون بيدال بوكاسا بانقلاب عسكري ناجح في افريقيا الوسطى أمكنه من جارور مفاتيح الحكم.

بوكاسا” حوّل فترة حكمه إلى مهزلة حقيقية، فعدا عن ارتداداته من المسيحية إلى الإسلام ثم من الإسلام إلى المسيحية فقط ليجني أموالا مصدرها الديكتاتور الليبي السابق معمر القذافي كان يُجبر تلاميذ المدارس على ارتداء مآزر مصنّعة حصرا من طرف شركة تابعة لزوجته ليتيح لها الرواج في أبشع صورة وقد أشرف على اعتقال وقتل الكثير من التلاميذ وعوائلهم بسبب عدم تمكنهم من شراء “مئزر النجاة”.

بوكاسا كثيرا ما حضّر لاستقبالات رسمية فاشلة لأبناء تركهم نطفة في الفيتنام وغيرها من بقاع حارب وأبحر فيها، وقبل مدّة من إسقاطه قرر تحويل جمهورية أفريقيا الوسطى إلى إمبراطورية أفريقيا الوسطى العظمى وزكى نفسه إمبراطورا أبديا لها..

لماذا بوكاسا؟ بوكاسا هو الوجه الحقيقي للديكتاتورية مهما حاولت التقنع بقناع الرصانة والحكمة وحب الوطن، وجه دنيء ومخادع وقميء.. الأستاذ لم يسمع عن قصة بوكاسا بالأذن لكنه سيقرأ عنها بالعين!

لوهلة، فكرتُ أن أصارحه بأنه مشروع ديكتاتور لأنه كان يصرّ في أثناء حصصه على اقتطاع أوقاتا متجاوزا وقت الحصة الرسمي فقط ليتمكن من إنهاء برنامجه الخاص، لكنني نظرتُ إلى السماء وقلتُ أن الغيوم اسوّدت والسواد يأتي بالمطر والمطر يأتي بالبلل والبلل يأتي بالمرض!

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version