الاختلاط من المنظور الفلسفي والديني

الاختلاط من المنظور الفلسفي والديني

الاختلاط من المنظور الفلسفي

إنّ الذّات البشرية مشدودة إلى”الآخر” لتبقي على استرواحها وإمكانية تهويتها. وهي في حال الابتعاد عن مركزيتها، والالتقاء “بالآخر”، والانخراط دائمًا في معركة الغربة والاغتراب عن البيت والدخول في كنفه والاحتماء تحت سقفه.

كما أن أركيولوجيا الجنسانية هي غير سيكلوجية الجنس أو التحليل النفسي حسب “فرويد” أو “لاكان” وأتباعهما. كذلك خارجية الذّات، وتقنيات ممارستها، ليست هي التواصلية مع “الآخر”. فالتواصل كما فلسفهُ “هابرماز” يرفضهُ “فوكو”، ويعتبره سياقا إعلاميا ينحاز للإشهار وما تحمله من رذائل فكرية وانحلال مما يُسبب قطيعةً ونفورًا بين الجنسين سواء ذكر أو أنثى.

في حين الالتقاء “بالآخر” هو التقاء بالجسد (ونعني بالجسد الذي هو الذّات أو العالم أي البشرية جمعاء)، فحين نكتشف جسد “الآخر” كذات فكرية، أو ذوات الآخر كجسد واعٍ يبدأ الانفتاح والتقارب النبيل في تعزيز الفكرة. إن اختلاطنا وتقاربنا مع “الأخر” لا يعني تشويه دواخلنا أو تجاوز معتقداتنا أو العادات والتقاليد، أو جواز سفر من ذواتنا النبيلة إلى ذوات متوحشة تمجد الرذيلة. إن اختلاطنا هو فتح المجال للتغيير وفهم بني جلدتنا والانفتاح على العالم أكثر ورُبما بالآخر نستيقظ على أخطاء قد لم ننتبه إليها. إذ ليس هنالك نزوع لتملك تبسيطي “للآخر” بقدر ما يكون البحث عن “الآخر” فرصة نادرة لإحداث التغيير في العالم الذي يشهد تشويهًا للدين وفبركة لإثبات العكس.

إن “الآخر” وُجد معي في نفس المكان وفوق نفس الأرض. أيضا له الحق أن يحتج وأن يعيش معي مهما كان لونه أو عرقه أو دينه أو فكره. إن هذا “الآخر” يشبهني لأنه إنسان ولكن يختلف عني لأن لكل منا فكرًا، له حدود ولي حدود نقف عندها. فضلاً عن أن أركيولوجيا الكشف عن تقنيات الذّات تنأى بنا عن التحليل النفسي بشكله الكلاسيكي مع “فرويد” والحداثوي مع “لاكان”، فإنها تضع حدا لكل التأويلات الخطأ علما أن الفلاسفة ليسوا مقياس.

“الآخر” سواء كان العالم أو الإنسان لم يعد مجرد وساطة معرفية وأدائية (((لا اغتراب عن الذات عن مركزيتها)))، ثم العودة إلى التطابق الكامل مع نفسها. فالتاريخ ليس عرضا لإمكانيات الذات، ولا مرآة ترد إليها هويتها غنية محملة بفتوحاتها المعرفية في أرجائه الرحبة. فإن “الآخر” مثل الداخل ليس سوى ثنية للخارج، وإن الخارج يبقى امتدادًا لبحرها معرفيا، لكنها توجد فيه. وكما قالوا سابقا “إن الموجة تنشأ من سطح الخضم وهي كائنة من كينونته، لكنها تختلف عنه. تعبُر بسطحه وعلى سطحه لا تدوم. لكن دوامها المؤقت هو سبب أو ظاهرة نتوئها الخاص فوق السطح الأملس الممتد إلى ما لا نهاية. إنها لو تنازلت عن نتوئها لاختفت ذرة في لا نهاية” وربما في ذلك حكمة.

إن الصراع القائم بين من يساند الاختلاط (أي الآخر فلسفيا) وبين من يحرّمه، هو صراع عاطفي ذهني ويحمل الكثير من التأويلات التي قد تصب في دائرة العنف الفكري التطرفي وقد تتسبب في الهمجية الفكرية وراء كثرة التأويلات غير المشروطة حول موضوع الاختلاط . فلو فهمنا حدود كل منا كفرد فاعل في المجتمع له ضوابط و حدود لا يتجاوزها لكان الأمر محسومًا. إن هذا الموضوع الذي يتراوح بين ممجد للاختلاط إلى مقزم له، إلى جامع بينهما. فكيف كان رأي عالم الدين في موضوع الاختلاط؟

الاختلاط من المنظور الديني

إن “الاختلاط” من الناحية الدينية وبدون أن نحاول التعمق في المسألة الدينية فقط لكي نكون أكثر حيادًا في هذا الموضوع. فقد سُئل “الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” في رسالة مطولة من أحد المسلمين وأهم ما طُرح في الرسالة “موضوع الاختلاط بين الجنسين وضوابط ذلك”.

وقد جاء فيها كثرة الأقوال والفتاوى حول الاختلاط مع الآخر سواء ذكر أو أنثى وقد استند في ذلك إلى قول لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها “لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن من المساجد”. ونحن نعلم أن المرأة في حاجة إلى أن تخرج للمجتمع من أجل العمل والتعليم وتشارك أتراح الحياة وأفراحها. وكل هذا يفرض عليها قدرًا يكبر أو يصغر من الاختلاط بالرجل، فهل يعد كل اختلاط بين الرجل والمرأة ممنوعا أو حراما؟”.

فرد عليه”الدكتور يوسف القرضاوي” وسأختصر في رده لأخذ المهم: “مشكلتنا كما ذكرت وأذكر دائما أننا في أكثر القضايا الاجتماعية والفكرية نقف بين طرفي الإفراط والتفريط، وقلما نهتدي إلى التوسط الذي يمثل إحدى الخصائص العامة والبارزة لمنهج الإسلام وأمة الإسلام”.

ويُكمل قائلا: “لا.. الإسلام حكم حكما عاما في موضوع “الاختلاط” وإنما ينظر فيه على ضوء الهدف منه، أي المصلحة التي يُحققها، والضرر الذي يخشى منه والشروط التي تراعى فيه إلخ.. وخير الهدي في ذلك هدي “محمد صلى الله عليه وسلم” وهدي “خلفائه الراشدين” و”أصحابه المهديين”.

والناظر في هذا الهدي يرى أن المرأة لم تكن مسجونة ولا معزولة كما حدث في عصور تخلف المسلمين. فقد كانت المرأة تشهد الجماعة والجمعة، في مسجد رسول الله وكان عليه الصلاة والسلام يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال..

كما أنهن كن يحضرن صلاة العيدين ويشاركن الرجال المهرجان الإسلامي الكبير الذي يضم الكبار والصغار، النساء والرجال مهللين مكبرين…

كان النساء يحضرن دروس العلم مع الرجال “عند النبي صلى الله عليه وسلم” ويسألن عن أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم. حتى أثنت عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألت عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها وتجاوز هذا النشاط إلى المشاركة في المجهود الحربي في خدمة الجيش و المجاهدين بما يقدرن عليه… “.

هذا أهم ما وُجد في الرسالة وما قاله “الدكتور يوسف القرضاوي” ومن أراد الاستفسار أكثر يستطيع العودة إلى محتوى الرسالة. وفي كلمة أخيرة إن الإسلام لم يمنع الاختلاط بل بين حدوده وشروطه وإن الآخر حتى من الناحية الفلسفية يبين لنا أن الاختلاط بالآخر هو عملية لفهم العالم ولكن أيضا بضوابط، وإن المرأة خلقت من ضلع الرجل ولا نستطيع العيش بمعزل عن الآخر.

وأختم بمقولة للداعية مصطفى البدري “إن الاختلاط أمر واقع لا يمكن منعه، فضلا عن تعطل الكثير من المصالح لذلك جاء الشرع بضبطه وليس بمنعه”.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version