ترامب “تاجر البندقية” الذي اشترى التطبيع بتغريدة..
كما القضية الفلسطينية بالنسبة للفلسطينيين، قضية الصحراء هي قضية قلب ووجدان كل صحراوي، مهما مارس من التقية، خوفًا من المغرب أو تزلفًا له، ومهما سالت خلجان مواقع التواصل من بيانات وبلاغات ولاء القطط السمان..
هي قضية شعب لا زال يناغي إشراقة الغد القادمة من خلف غيوم اليوم والأمس، منذ قرابة نصف القرن، لا حل لها إلا بخطوة ديموقراطية جريئة لرجل بأنثنين؛ تكمن في الاستفتاء على تقرير المصير، فإما الانضمام إلى المغرب كأي محافظة من محافظات المملكة وإما الاستقلال، في بلد مساحته أكبر جغرافيًا من بعض دويلات الخليج التي مارست فعل “السمسرة” في مزاد التطبيع..
والنخبة المغربية سياسية، اقتصادية وثقافية، وقبل الأمريكان أنفسهم؛ يعلمون أن “إعلان” ترامب، “مغربية” الصحراء الغربية؛ فعل يشبه مضغ الماء، فلا الحل بيده، ولا البيت بيت أبيه يُملكه من يشاء بسخاء حاتمي، عبر تغريدة خارج سرب القانون الدولي!..
النخبة المغربية أيضًا تعلم حد اليقين، أن الحكم الذاتي مشروع مرتبط بموافقة جبهة البوليساريو، المنظمة الصحراوية التي انسحبت من وقف إطلاق النار، وأعلنت العودة إلى الحرب..
حرب لا زالت الرباط تضرب حولها جدار صمت رسمي، فيما تؤكد البوليساريو أن رحاها تدور بالجدار العازل، مؤكدة أنها أجبرت على خوضها بعدما وصل مسلسل السلام منتهاه، كأنها تقول بلغة النار والحديد ما يتناص مع مقولة غسان كنفاني “هذا البيت بيتي، وجودك فيه مهزلة ستنتهي ذات يوم بحمل السلاح”..
نخبة المغرب يعلمون ذلك، بل ويتهامسون به في جلساتهم، ولكنهم يخشون غضب النظام عليهم، وأن يراهم نشازًا في سمفونية “الوحدة الترابية”!..
التطبيع المغربي الاسرائيلي
أما التطبيع المغربي الاسرائيلي ففي جوهره ليس سوى إعلان للعلاقات الوثيقة بين الرباط وتل أبيب، فالتقارب بين إسرائيل والمغرب بدأ يأتي أكله عام 1976 عندما استضاف الملك الحسن الثاني، للمرة الأولى، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين..
إعلان ترامب، التاجر الحذق ليس جديدًا، فقد كان متوقعًا بشدة؛ بعدما سربت الصحافة العبرية موقف المغرب من إعلان التطبيع، والذي اشترط مقابله دعم موقفه في الصحراء الغربية.
وهي مقايضة تجارية في سوقٍ سياسية بين فلسطين والصحراء، وهي مقايضة من سخرية الأقدار تذكرنا بمقال كتبه سنة 1973، الولي مصطفى السيد، مؤسس جبهة البوليساريو تحت عنوان “فلسطين جديدة في أرض الصحراء”.
التطبيع أو السلام الترامبي
التطبيع أو السلام الترامبي، الرجل الأبيض المتغطرس ليس ذلك الصلح الذي يصفه أمل دنقل بأنه “معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص”..
فلا حرب كانت بين أبناء إسماعيل هؤلاء الذين يجمعهم ترامب بابن عمهم إسحاق، ولا هو سلام ندين لن ينتقص، بقدر ما هي صفقة رابحة قام بها تاجر واشنطن الذي تقمص شخصية “تاجر البندقية” اليهودي “شيلوك”.
فبدأ يقطع أرطالًا من كرامة أبناء إسماعيل في المشرق بعدما سلبهم أموالهم واضحة النهار، دون أن تراق نقطة دم.
أما الإبن الآخر لإسماعيل في المغرب، وسبط النبي محمد، فقد رهن لدى “شيلوك” خمسًا وأربعين سنة من “الوحدة الترابية” وملايير الدولارات في الحرب والسلم، من أجل اعتراف بسيادة على أرض أكثر من 20 بالمئة منها لدى البوليساريو، تسميها “مناطق محررة”.
فهل يستطيع “شيلوك” البيت الأبيض أن يطرد البوليساريو من تلك المساحات التي يقعقع فيها السلاح الآن، هل يستطيع أن يعيد الصحراويين عنوةً من اللجوء إلى مدن الصحراء؟..
إنه ليس بتاجر حذق فحسب، بل هو أمكر مما كنّا نتوقع، إذ لم يعلن عن فتح قنصلية في العيون، كبرى حواضر الصحراء الغربية، بل اختار الداخلة، المدينة الساحلية التي كانت حظ موريتانيا إبان تقسيم الإقليم بين الرباط ونواكشوط، في “إتفاقية مدريد الثلاثية”.
وهذا إن يدل على شيء فهو يدل على أن ترامب أعطى المغرب اعترافًا شفهيًا بمغربية الصحراء لا سند قانوني له، وفتح قنصليته في أرض لا زالت موريتانيا مسؤولة عن تسييرها بموجب اتفاقية لم ينسحب منها أي طرف، ولم يعلن بطلانها بعد.
وفِي مقابل ذلك، أعطى للصحراويين خدمة لم يحلموا بها من قبل، إذ فتح أعين العالم من أقصاه إلى أقصاه على هذه القضية التي لازالت مفتوحة لدى المنتظم الدولي، وسجالا في ميادين القتال والسياسة.
كما أدخل الشك لدى المواطن المغربي البسيط في ما ظلت القنوات الرسمية تلقنه إياه، المواطن الذي يتساءل الآن “إذا كانت الصحراء مغربية فلم نقايضها بفلسطين؟”..
مآلات قضية الصحراء
القضية الصحراوية الآن مفتوحة على كل الاحتمالات، وقد يثقب بايدن بالونة ترامب ويتبخر إعلانه ليبقى التطبيع وسمة عار على جبين الرباط، وتبقى القضايا العادلة شيئا لا يقبل الباطل فعمره قصير، وتبقى مشكلة المغرب مربوطة بقبول من يصفهم بالارهاب والارتزاق لأطروحته..
أما نحن وكصحراويين نعيش في فوهة بركان الصراع، ولدنا بعد وقف إطلاق النار، يمكن أن نكون “براغماتيين” على الطريقة الأمريكية.
الطريقة التي أعطت تغريدة مرقونة بحبر إفتراضي، واشترت تطبيعًا ينضاف لسجل ترامب، المخلص الأبيض الذي جاء ليعيد أبناء “إسماعيل وإسحاق” إلى حضن “إبراهيم” بعيدًا عن خلافات “سارة وهاجر”..
بل يمكن أن نكون “ترامبيين” إن صح التعبير، ونقول “ليبقى الأمر هكذا..
ولنعش حياتنا بمفارقاتها وتناقضها الظاهري، مغاربة في الصحراء وصحراويون في المغرب”، فلا نحن كلنا راضون عن سياسة جبهة البوليساريو، ولا عن النظام المغربي؛ الذي نتوجس منه ويتوجس منا ريبة، فنحن “جيل اللا ولاء” كما يقال، في قصد ممنهج لعدم ذكر أن ولاءنا لـ”الإنسان فقط”..
ولكن الـ”ترامبية” التي ينهجها البعض ليست حلًا، فلكل منا جزء هناك شرق الجدار، لا تزال قلوبنا مشرئبة تنتظر موعدًا يتيح لقياه، موعدٌ لا تحدد عقارب ساعته سوى صناديق الاستفتاء سلمًا، تقرر عبرها ساكنة الإقليم مصيرها، أو بلعلعة الرصاص حربًا، تكون بعدها الأرض لمن له الغلبة، أما غير ذلك من لف ودوران فهو بعينه النقش على الماء، والكتابة على رمال الكثيب الكئيب المتحركة.