التعددية المذهبية في الجزائر.. مِن التقييد إلى الحظر!

المُتصفِّح للصّفحات الإخبارية الإلكترُونية مِن أجل الاطلاع على موقف الإعلام الجزائري مِن التّعدُّدية الدينية المَذهبيّة وحرية التّديُن في دَولة الجزائِر، سيُصدَم حتماً مِن هَول العَناوين المُصَاغة التّي تَتصدَّر مقالات إخبارية تتناول قضايا تعدُّد المذاهب والأديان دُون أن نَنسى ظاهرة الإلحـاد، فمِن أبرز العناوين التّي اعتمدتها الصُحُف الجزائرية على سبيل المثال لا الحَصر هي: الأحمدية تُهدّد الجزائر، مُلاحقة أتباع الطائفة الأحمدية، خَطر التّشيُّع في الجزائر، المُلحِدون في الجزائر: مسلمون في الظاهِر كُفّار في السِرّ.. إلخ..

هُنا نَودّ طرح عِدّة تَساؤُلات أهمُّها:

ما مَحلّ التعددية المذهبية مِن الإعراب في الجزائِر؟

 

قَبل أن نُحاول اقتِفاء أثر قضية التّعدُّدية المَذهبية علينا الإشارة إلى التمايُز الدّقيق بين التّعدُّدية الدّينية وبين التّعدُّدية المّذهبية التّي عليها مَدار مقاِلنا، حتّى لا نُشعِّب المواضيع مع بعضها البعض ولا نَغرَق في دوّامات التّوسُّع الذي يَجعلُنا نضِيعُ في متاهاتِه.

فـ التّعدُّد الدّيني يَتمّثَل في التعدد في الدين والعقائد والشرائع، حيثُ تَرتكِز مبادئه على ضَرُورة الاعتراف بوجود تنَوُّع ديني في مجتمع واحد أو دولة تضم مجتمعاً أو أكثر، بالإضافة إلى وُجُوب احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في العقائد، مع الحثّ على إيجاد صِيغ ملائمة للتعبير عن ذلك في إطار مناسب وبالحسنى بشكل يحَول دون نشوب صراع ديني يهدد السّلامة الاجتماعية.

أمّا التُعدُّد المَذهبي فهُو الذّي يَكون في إطار ديني واحد، حيث تَعتمِد أُسُسُه على الاعتراف بوجود تَنوُّعٍ مَذهبيٍّ يَكُون ضِمن مجتمعٍ واحدٍ أو دولةٍ تضم مجتمعاً أو أكثر، مَع ضَرورة احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في الفروع أو غيرها، دُون أن تَغفَل على البحث عن إيجاد صيغٍ ملائمةٍ للتعبير عن ذلك في إطار مناسب وبشكل يَمنع نشوب الصراعات المذهبية التّي تُهدد سلامة المجتمع، مع ضَمَان الإقرار بعدَم أحقيّة نفي أيّ أحد وتهمشيه، التّكفُّل بحرية التفكير والتعبير المذهبي للجميع والمساواة في ظل سيادة القانون.

انطلاقاً من السّرد الذي تَطرَّق إلى التمايُز بين التّنوُّعات الدينية والمذهبية، وَجب التّنويه الى أنَّ تَعدد الفرق والمذاهب داخل الدين الإسلامي يُجسِّدُ ظاهرةً طبيعيةً وحيويةً بِشكل نِظامي ومُستمِّر جميع الأديان والمُعتَقدات، فقد دَخلَت المذاهب الإسلامية طَور التَّكوُّن منذ بداية القرن الأول الهجري، وانْبَثَق عنه الكثير من المذاهب والفرق والمدارس الفقهية.

وعليه وبَعد الخوضِ في المفاهيم الأوليّة التّي سَننطلِقُ مِن خِلالها سنطرحُ تَساؤُلاً آخر، نَستعين بإجابَاتِه في الردِّ على تساؤلنا المَطرُوح صَدر هذا المقال، وهو:

ما مَحلّ التّعدُدية المَذهبية مِن الإعراب في الدّستُور الجزائري؟

Jamaa al-Jdid ( الجامع الجديد, « nouvelle mosquée » en arabe) est une des mosquées historiques d’Alger. Elle est située dans le quartier de la basse Casbah.

كما هو معلومٌ للقاصي والداني أنَّ ثقافة التّعدد المذهبي لا تَكون مُتاحة إلاّ إذا توَفَّر المُناخ القانُوني الذي يُساعد نُموُّها وازدهارِها، وحينما نُلقي الضّوء على الدُّستُور الجزائري نَجِدُه يُصرِّح بِشكلٍ واضح أنّ الإسلام هو دِين الدولة في مادّتِه رقم 2، إلى جانِب أنّه يُعلن صراحةً أنَّ الحُريّة الدّينية مكفولة ومَضمُونة بموجب المادّة رقم 32، حيث تَنُصُّ على أنّ كل المواطنين سواسية أمام القانون، ولا يمكن أن يُتذرّع بأيّ تمييز يعود سببه إلى المولِد، أو العِرق، أو الجِنس، أو الرّأي، أو أيّ شرط أو ظرف آخر شخصيّ أو اجتماعيّ، مع التّشديد على وُجوب احترام حُريّة الاعتقاد والرأي مِن خلال المادّة رقم 42 التّي كانت مِن ضِمن دائرة التّعديل الدستُوري المُؤرّخ في 6 مارس 2016 والتّي جاء فيها:

لا مساس بحُرمة حرّيّة المعتقَد ، وحُرمة حرّيّة الرّأي. حرية ممارسة العبادة مضمونة في ظل احترام القانون. {المادّة (42) من الدستور الجزائري}

ومِن خلال ما ورَد في نُصُوص الدستور الجزائري الواضحة وجب علينا وعلى القُرّاء أيضاً وَضع عِدّة علامات استِفهام وتَعجُّب بخُصُوص هذا الموضوع، مِمّا يَجعلُنا نَستفسِر عن تطبيقات تلك النُصُوص القانُونية في أرض الواقِع المعاش، دُون أن نَغفَل عن الأسباب التّي جعلَت السّلُطات الجزائرية تُركِّز بِكل قِواها على اعتقال ومُحاكمَة كُلّ مواطن جزائري يُحاول أن يُمارس حقّه الدّيني في حُريّة الاعتِقاد الذّي منحه له دستُور الوطَـن القاطِن فيه!!

في هذا المَقال سنُحاول تَجنُب الغوص في المسائل القانُونية وكذلك السياسية، مع عدم الاشتِباك مع السُلُطات الجزائرية بشأن سُلُوكياتِها في تسييرها لِمِلّف التّعدد الدّيني المَذهبي، بل سَنمشي في خطّ مُستقيم واضِحٍ وثابتٍ نُبرِز مِن خلالِه أهميّة الحوار بين الأطراف المَذهبية المُتواجدة في مُجتمعٍ واحد، تَفادياً لعِدّة انزلاقات ونزاعات خطيرة تُؤدي إلى أوضاع أشبه بالمستنقعات لا يُمكِن الخُروج مِنها مُستقبلاً.

ولهذا سَنأخذ تصريح وزير الشُؤون الدّينية والأوقاف الجزائرية السيّد محمّد عِيسى كعَيِّنة لمعالجة ما أشرنا ‘ليه، حيث أوضَح في تصرِيحٍ شفويٍ له شهر مارس الفائت بأنّ المَجالس العِلمية التابعة لِقطاعِه قررت الرجوع إلى الفتوى التي كان قد أصدرها المجلس الإسلامي الأعلى والمرحوم العلامة أحمد حماني في السبعينيات والقاضية بأنّ الطائفة الأحمدية فئة ضالة وخارجة عن الملة والدين الإسلامي الحنيف..

وهنا كما نوَّهنا أعلاه لن نَخوض في ملابسات السياسية والأمنية الدقيقة بصرف النظر عن صواب أو خطأ قرار إخراج الطائفة مِن دائرة الإسلام مِن الناحية الدّينية، بل سُنخُوض في الخُروقات الواضحة للمادّة الدستُورية رقم 42 المَذكُورة أعلاه مِن طرف السُلطات الأمنية التّي تُحاول حظر أيّ نشاط مَذهبي فوق التُراب الجزائري، فهل يُدرِك السيّد الوزير حَجم خُطُورة تصريحه الذي سيُعرّض سلامة المواطنين الأحمديين ومعهم مواطنين آخرين يَعتنِقُون مذاهب أُخرى إلى عِدّة مَخاطر يَكون مَصدرُها التّطرف والتعصب الدّينيين، بَعد أن جَعلَهم كُفّار في نظر الرؤية الدّينية التّي يتبناها المُجتمع الدّيني وهُو يُدرك تماماً معنى أن يَكون مُواطن جزائريُ كافرٌ وسَط أفراد مُجتمعه؟

هل تُريد السُلطات الجزائرية أن تُسيطر على الأوضاع الأمنية الدّاخلية أم تُريد انفلاتَها بأن تُقدّم عِجلاً حَنيذاً للمتعصّبين دينياً ومذهبياً المُندّسِين النائمين والمُنتظرين أيّ شَرارةٍ تُوقِظ وحشَ الهمجيّة الكامِن داخلهم؟

بما أنّ الحُكومة الجزائرية تُطبّق المادّة الدستورية التّي تَنصُ على أنّ الاسلام هو دينُها فلما لا تُحاول تطبيق النّص الدّيني القرآني القائل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}؟

لماذا تُبرِّر أفعالها بنصّ فتوى يَرجع زمنُها إلى فترة السبعينيات، ألا تتغيّر الفتوى مع تغيُّر الزمن ومُقتضيات البيئة والظُروف ومصالح المُجتمع؟

فسواء كانت تِلك الجماعة التّي تُطاردُها أجهِزتُها الأمنية وتُحاول حظرَ نشاطاتها كانت مِن ضمِن دائرة الإسلام أو مِن خارِجها، الأَولى بمُختلف أجهزتها الإعلامية (السمعية، البصرية والمكتوبة) والدّينية (هياكل وزارة الشُؤون الدينية والأوقاف)، أن تَعمَل على إقامة أعمدة تواصُل متينة تُتيح شبكة حِوارية تَقوم بتوعية المواطن الجزائري بصرف النظر عن مرجعيته الدّينية والمذهبية، وتفتح أبواباً للتعارف المذهبي بين المواطن وبين أخيه المُواطن، إلى جانب تنصيب عِدّة مِنصّات معلوماتية تُتيح للمُجتمع أن يتعايش مع مَن يُشارك أفرادَه الوطن والمواطنَة مِن الأقليات المذهبية والدّينية، مِمّا يُساهم في تضييق الخِناق على ظاهرة التّعصُب التّي تَخلِق لنا مظاهِر أُخرى تتمثَّل في العُنف بِكُلّ أشكالِه، إلى جانب تَفادي فِخاخ تمزيق أواصِل الشّعب وتفتيت وحدة المجتمع الجزائري، إضعاف الروح المعنوية، وخلق الفتن والصراعات النّتِنة.

بصرف النظر عن العوائق والإشكالات الأمنية والقانونية التّي تَتعامَل معها الدّولة الجزائرية بحزم شديدٍ، إلا أنّ ذلك السُلوك إن لم يُصاحبه حوارٌ مفتوح مع الأطراف المَذهبية صادِق، سيَفتح أبواب تَعصُّبٍ كبيرةٍ تَجلِب لنا سيلاً مُدّمِراً عبارة عن ردّات فِعلٍ عنيفة جِدّا تُغذِيها أيادي الجهل والخُبث الشّيطاني، ولهذا فالدّعوة إلى المُحاورَة الهادئة بالتّي هي أحسَن خُطوة ثمينة جِدّا تَجعل المُجتمع الجزائري كياناً عاقِلاً وواعياً يَتعايش ثقافياً، دِينياً وفِكرياً مع بعضِه البَعض، مِمّا يَخلِق مُناخاً مُتنوِّعاً يُساعِد على الارتقاء والتّطوُّر الحضاريين.

وعليه فالدّولة الجزائرية مُلزَمة بإتباع أسلُوب الانصات والجِدال الهادف الذي يُساعِدها في التّمكُن مِن سياسة التقيِيد والابتِعاد عن تطبيق سِياسة الحَظر حتى تُحسِن لعب دور الحكِيم الذي يُجيد إمساك العصا مِن وسطِها، وتَسمح لمُواطنيها مُمارسة حُرياتهم الدّينية وِفق قوانين دستورية تَحفظ لهم حُقُوقهم مع تبيان ما عليهم مِن واجبات، وبهذا يَكون التّقييد قانونياً إنسانياً يُوازن بين قِوى المجتمع المذهبية المُتعدّدة عن طريق مُختلف قنوات الحِوار والتّوعيّة دُون اللجوء إلى أُسلوب الحظر والتّهميش الذي يُولِّد وُحُوشاً عنيفةً يَصعُب التّخلّص مِنها.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version