إن ما التفتَ حولك لن تجد أسباب هذه الرغبة الجامحة اجتماعية، ثقافية أو سياسية، وإنما ستجد أمرا آخر، الكل يعلمه ويشعر به، الكل يعاني من ويلاته ويتألم لأنه الجامع بينهم، الكل يقاسي بشكل أفظع مما يجب بسببه، ولا أحد يجرأ على التصريح بشأنه أو عتاب من يقوم بتغذيته، وكأنه قدر محتوم، وكأنه سرّ مكتوم.
إن ما ولدتَ على أرض شمال أفريقيا فإنك ستولد مكسور الجناح، وإن ما نجوت من عملية ولادتك أنت وأمّك فمبروك وألف مبروك، دون أن ننسى: مرحبا بك في قبرك الحياتيّ؛ ستُسجّل في بلدية لم ينتخب الشعب “ميرها” رئيسها، ثم تحمل جنسية بلاد لا يصنع الشعب فيها أي جزء، اللهمّ تلك المشاركة المفضوحة في صندوق الانتخابات.
ستبكي بشدة وأنت تتعرّض لثقوب في جسمك من شدة فضاضة معاملات الممرضات، ثم ستكبر قليلا لتلعب في التراب، بعدها ستتعلّم لهجة ما هي بالعربية لا الفرنسية ولا الإنجليزية ولا لغتك الأم الأمازيغية، وتذهب لمدارس المعلّم الممتاز فيها يحارَب من طرف والديْك قبل القانون، وستحمل في طريق مدرستك محفظة تجعل ظهرك معوجّا مثل أقواس المساجد التي ستصلي فيها نفاقا يوما ما.
ستكبر وتكبر معك طموحاتك التي يقتلها الواقع مثلما يفعل الصياد المحترف ببندقيته مع الحمام البريّ، أولا سيسألك المعلّم عن رغبتك في ما بعد دراستك هذه، وتجيب: طبيب!! يبتسم المعلم ظاهرا بينما يقهقه في باطنه وهو يقول: “الميكانيكي لا ينجب طبيبا على هذه الأرض يا بني، فلا تضيع وقتك على هذه المقاعد الخشبية البائسة، ها أنا أحد أمثلة بؤسها الكثيرة”.
بعدها ستنجح في “السانكيام” الابتدائي وبدلا من أن تصارع معلما هو بمثابة الدكتاتور، تنتقل لمصارعة أساتذة كثر، المفيد بينهم مقهور، وتعاني الكثير وأنت في عز شبابك، بين سوء الحال وحجم الآمال التي يعقدها المجتمع والأسرة عليك، تلك السموم التي تبدوا لأوّل مرة لك في أثواب كثيرة.
ستنجح في “البيام” الإعدادي وتزداد طاقة وحيوية، تصبح محبا لكرة القدم وبلادك بلا ملاعب لائقة حتى للمحترفين، فما بالك بك أنت؟ ستحب فتاة لأوّل مرّة وتحبك بجنون، ثمّ يأتي الواقع ليحطم تلك العلاقة لأنّ “الحب” بنص الشرع في بلادك محرّم وبنص القانون ممنوع، وبنص الأعراف والتقاليد عيب وعار.
ستذرف دموعا غزيرة على فراق حبيبة صباك الأولى، وتوجّه كل طاقاتك الإيجابية هذه من المحبة إلى الدراسة، تتفوّق والجميع من حولك يطرح أسئلة عن سبب تفوقك، بينما أنت تجيبهم في صمت: هي لوعة فراقي لحبيبتي يا مجرمين.
هذا التفوّق سيجعلك تنجح في الباكالوريا وتصبح جامعيا، وهنا نظرتك للعالم تتغير، ستحمل حقيبتك باحترام، وتركب حافلات الجامعة بالمجان، وتأكل بعد مرورك بالطابور تلك الوجبة أيضا بالمجان، وفي كل جامعة لن تسمح لك العادات الأعراف بدخول قاعات الدرس، لأن كل صرح جامعي يحتضن بين جدرانه ساحات واسعة، وتوظف إدارة جامعتك جيشا من الفلاحين للاعتناء بأعشاب الساحات، فهي تعتني بهم أكثر من الطلاب والمدرّسين والمدرّسات، كل هذا حتى تجد أنت مكانا للمبيت ووسيلة نقل وفتيات يتوزعن على زوايا أحلامك كما يتوزعن على زوايا ساحات جامعتك المعشوشبة.
وبعد طول سمر في الجامعة تتخرّج بشهادة لا تعترف حتى جامعتك بها، كونها تطلب منك اجتياز “امتحان نتائجه معلومة قبل وقوعه”، حتى لا تفكر في إكمال دراساتك العليا من بعيد، وهذه هي مطرقة واقعك الصلبة التي تحيدك عن عقلك بنجاح، تذهب إلى معسكرات الجيش لأداء الخدمة الوطنية هربا من كلمة “بطّال”، وبعد “تمرميدة” معاناة الجيش الرغيدة، تصبح بطّالا وسيرتك على كل لسان، لتعمل في كافة الأعمال الحرّة، تلك التي أسسها زملاء دراستك المتسربين مبكّرا من الدراسة، لتجمع بعض المال، تشتري به مكانا على قارب يناطح أمواج المتوسط هربا من وطنك الأم الذي عشت فيه طيلة حياتك، والذي لم تعرف غيره وطنا، هروبا من الظلم (несправедливость)، من الظالمين.