ثقافةمعرفة

الخوف والفلسفة والدين لدى لوك فيري

يعتبر وزير التربية الفرنسي السابق: لوك فيري من أهم فلاسفة العصر الحديث. وتأتي أهمّيته بالنسبة لي في تناوله لأهم الأحداث والظواهر التي تمرّ على البشرية، ناهيك عن اهتمامه بدور الفلسفة في تنمية الإنسان والترفيع من مستواه إلى مرتبة الإنسانية متّبعاً فيها أفضل مدرسة عرفها تاريخ الفلسفة ألا وهي: المدرسة الرواقيّة.

في حوارٍ أجري معه منذ مدّة تناول فيه لوك فيري ظاهرة الخوف وأنواعه لدى الفرد والمجتمع، وتحدث أيضاً عن الفلسفة وتمدرسها وطريقة تدريسها، والدين وارتباطه وتشابهه بالفلسفة. حيث يرى فيري أن الفلسفة تقدّم لنا إجابات تمكّن الإنسان من التغلب على مخاوفه التي تحيطُ به وتزداد كلّ يوم. وهي عقبةٌ تعيقه من التحرر والتنوّر وحب الآخرين.

السعادة والخوف

يرى فيري أن السّعادة غير موجودة لدينا، ما نمتلكه هي لحظات من الفرح فقط، ولكننا لا نمتلك حالة دائمة من الرضا والسعادة عن الأحداث التي تجري لنا.

فالموتُ والطّلاق وفقد الأصدقاء والأحباب والمرض وحوادث السير هي أمورٌ لا مفرّ منها. هذا سبب كاف بحسب فيري ليعطينا معنى أنّ السعادة والبحث عليها لا جدوى منه.

ما نستطيع أن نمتلكه هو الشّعور بالسّكينة والطّمأنينة، وهذا شيءٌ مختلفٌ تماماً.

لا نحقّق السكينة وحالة الطمأنينة إلاّ بالتغلّب على الخوف ومشاعر السّيئة. ما يجعلنا أنانيّين ويشلّ قدرتنا ومشاعرنا ويمنعنا من الانسجام والتّفكير بحريّة وبذكاء هو الخوف. فالفلاسفة اليونان قديماً قالوا بأنّ الحكيم هو من يتغلّب على مخاوفه.

أنواع الخوف

هناك ثلاثة أنواع من الخوف:

  1. الخجل: فنخجل عندما نريد الحديث أمام الجمهور، أو عندما نتعرّف إلى شخصٍ مهمّ. وهذا بسبب ضغط المجتمع. 
  2. الرهاب: حالة الخوف من الظلام، ومن الحشرات، ومن الوقوع في المصعد.
  3. الخوف من الموت: حيث نخشى من فقدان من نحبّ أكثر من فقداننا لأنفسنا. لا أشيرُ، يقول فيري، إلى الموت البيولوجي إنّما إلى كل شيءٍ لا عودة له.

وتجسّد قصيدة: الغراب، لإدغار ألان بو هذا الشّيء بشكل مثاليّ. حيث يكرر كالببغاء عبارة: لن يتكرر مرة أخرى أبداً!.

إنّ الموت في الحياة يمثله لوك فيري بالطفل الذي يحير في طلاق والديه، حيث لن يجدهما معاً مرّة أخرى، فالحياة تعطينا تجربةً عن الموت!

ما يهمّ هو حالة السكينة والطمأنينة وليست السعادة، حيث نتغلب بهما عن حالة الخوف التي تحيطُ بنا. تستندُ الفلسفة منذ هوميروس وأفلاطون إلى شوبنهاور ونيتشه على تعاليم السّكينة والطمأنينة والصفاء.

الخوف بين الفلسفة والإيكولوجي

تعيش مجتمعاتنا الحالية في وضعٍ يسوده الخوف. وتزداد المخاوف أكثر بحسب فيري إلى خوف من الوضع الذي تسببه البيئة السياسيّة، والخوف مما يسببه الاحتباس الحراري، والخوف من الثقب الذي بطبقة الأوزون، والميكروبات، والتّلوث، ونهاية الموارد الطبيعيّة.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ البشرية تزيد كل عام خوفا جديداً في رصيدها المليء بالمخاوف، كالخوف من اللحوم الحمراء، الإيدز، الجنس، التدخين، سرعة السيارات، إنفلونزا الطيور. بحسب فيري فإنّ هدف علماء الإيكولوجي (علماء البيئة) والأفلام التعامل مع هذا الموضوع بجلب الخوف إلينا.

هل من الممكن أن يكون الخوف شيئا إيجابيّا للبشرية يفيدها في حالتها الراهنة؟

يستدل فيري بإجابته على هذا السؤال من كتاب للفيلسوف الألماني: هانز جوناس، حيث عقد فصلاً في كتابه [مبدأ المسؤولية] بعنوان: استدلال الخوف، وفيه وصفٌ للخوف بأنّه شغف إيجابي بالنّسبة للبشرية ومفيد لها.

ولكن عبر تاريخ الفلسفة الغربية كان الفلاسفة يرون الخوف يأنه هو عدو للإنسان، وشيءٌ طفولي، وسيء للغاية.

أما علماء البيئة فيعكسون رؤية الفلسفة التقليدية بقولهم أنّ الخوف هو بدايةُ الحكمة، وبفضل الخوف ستدرك البشريّة المخاطر التي تحدق بالكوكب. في هذه الحالة الخوف خطوة أولى للسير نحو الحكمة، فهو ليس بعدوّ للإنسان!

لوك فيري يوافق علماء البيئة في جزءٍ حول ظاهرة الخوف، فيقول: لا يعني ذلك أنّ علماء البيئة مخطئون تماماً، بل هناك جزءٌ من الحقيقة فيما يقولون. هناك كثير من الأكاذيب حول الخوف.

ويضيف: لا أتقبّل فكرة لحركة سياسيّة تقوم على الخوف!

القلق بين الفلسفة والتحليل النفسي

يرى فيري أن الفلسفة والتحليل النفسي يتعاملان مع عدة مخاوف، فالتحليل النفسي يحارب الألم المرضي، والصراع بين الرغبة والأخلاق، ومحاولة لخلق انسجام بين الإنسان ونفسه.

ومع هذا فإنّ البشرية لو حققت صحة عقلية مثاليّة، وبعد عشرين عاماً من التّحليل النفسي الناجح ستبقى ضائقةٌ ميتافيزيقيّة.

تبتدأ الفلسفة حين تحقّق الحكمة لنا الإحساس بالسّكينة والطّمأنينة، وليس بتحصيل السعادة.

بين الفلسفة والدين

ما أوجه الاختلاف والتقارب بينهما؟

ربما هناك العديد من أوجه اللقاء والاختلاف بين الفلسفة والدين، وقد بقي الصراع بينهما حد اللحظة هذه بين جزرٍ ومدّ. لكن ما رأي لوك فيري في ذلك؟

هدف الفلسفة والدين لدى فيري هو التوقف عن الخوف.

فالدين يقول لنا بأن الإنسان المؤمن بالإله فلا شيء يدعوه للخوف. مثلاً، أنت لست محتاجاً للخوف من الموت. الأديان يقول فيري، هي تعاليم لتطهير النّفس بالإيمان.

أيضا هدف الفلسفة يتّسق وهدف الدين لدى فيري، حيث كل الفلسفات تريد إنقاذ الناس من الخوف الذي يعيق عيشهم الكريم.

الفلسفات الكبرى هي تعاليم لتطهير النّفس بدون الحاجة إلى إله، وبدون الحاجة إلى الإيمان.

لكن، هل يمكننا أن نتغلب على الخوف؟

يمكننا ذلك، ولكن بشرط ألا نتيه في براثن الماضي، فالرجل الحكيم هو الذي لا يجهدُ نفسه بالتّفكير في الماضي، بل يعيش بأمل يكفيه على الأقلّ في الحاضر. إذا انفصلت أو غيّرت في وظيفةٍ ما، أو غادرت المنزل، هذا الشّيء كان في الماضي. فالمستقبل ليس أكثر من وهم!

ويضرب فيري مثالاً على ذلك مستدلاّ بملحمة هوميروس، والتي تحكي قصّة يوليسيس وزوجته بينليوب اللذان يعيشان في إيثاكا، وهي مدينة يونانية معروفة. خيث سيتغلب يوليسيس على أعظم المخاوف التي تحيق بالوجود البشري. حيث الخوف من الماضي والمستقبل.

فـ يوليسيس يريد أن يحضر حرب طروادة، وقد كان بعيداً عن فوضى الحرب مقيماً في منزله لمدة عشرين عاماً.

قيمة قصة يوليسيس تبرز من خلال انتقاله من الفوضى إلى حالة الانسجام، من الحرب إلى السّلام، من مشاعر الكراهية إلى حب بينيلوب، فهو يتشبّث طيلة عشرين عاماً إمّا بالماضي أو بالمستقبل، متشبّثاً بحبّه لإيثاكا، أو بأمل العودة إليها. عندما تعود إلى أرض وطنك بعد كل هذا الوقت، يمكنك أن تعيش في الحاضر.

تمدرس الفلسفة

الفلسفة كما يراها لوك فيري، في واقع التعليم المدرسي سيّئة للغاية في طريقة تدريسها وعرضها للتلاميذ، ومن الواجب كما يقول، علينا أن نتوقّف عن تدرسيها؛ لأنّنا ندرّسها بغباء وجهل. حيث تمّ اختزالها في التعليم المدني، فنحن نقدم أسئلة بدون أجوبة محتملة، حيث نسألهم: ما الوقت؟ ما هو الخير؟ فهذا النوع من الأسئلة لا علاقة له بالفلسفة من قريبٍ أو من بعيد.

من يريد لأطفاله أن يتعلّموا التفكير عليه أن يعلمهم قصصاً لها قيمة مستفزة للعقل، تتناولُ رؤى جيّدة عن العالم.

ويتّخذ لوك فيري مثالاً على ذلك بقوله: في الفلسفة يوجد خمس إجابات رائعة على سؤال: ما هي الحياة الجيّدة؟ من وجهة نظر: اليونانية، والمسيحية، والإنسانية الحديثة، والفلاسفة كنيتشه والجيل المعاصر من الفلاسفة. فالفلسفة طريقة لتعلّم العيش، فهي كما يقول فيري، لا علاقة لها ببناء برهان أو حجّة لإجابة عن سؤال مبتذلٍ وتافه!

تدريس الفلسفة

يرى فيري أن الفلسفة في مدارس اليونان القديمة كانت تمارين لتعلّم الحكمة، ولم تكن هناك خطبٌ تُلقى هنا وهناك كحالنا مع الفلسفة الآن.

ويستدل بذلك على طريقة الرواقية. حيث طلب زينون الرواقي من تلامذته أن يصطادوا سمكة ميّتة ويتم ربطها ووضعها على الكتف كالكلب. عندما يمرّ حامل السّمكة على عاتقه، فإن المارة سيسخرون منه. فهنا يتعلّم التلميذ ألاّ يخاف مما يقوله الآخرون عن فعلته بالسمكة الميّتة وربطه لها. وهذا لبّ الفلسفة أن تحرّرك من الخوف، وألاّ تُلقي بالاً لمن يسخرون منك [التشديد من عندي].

يضيف فيري: الحكيم، من يتغلّب على خوفه حيال نظرة الآخرين له، وما يؤمنون به. فالحكيم لا يمكن أن يهتمّ بالتقاليد الزائفة للآخرين، حيث يهتمّ بالطبيعة والكون من حوله حتى يكون هناك وئام وتناغم وسلام بينه وبين نفسه ومع العالم، غير مبالٍ بمستوى السّفاهة والخرافة الذي يهتمّ به العوامّ من الناس.

فالحكمة التي يتحلّى بها الإنسان ينبغي أن تكون فعل تحرير وتطهير للذات، من الخوف والمشاعر الحزينة والانفعالات والشهوات. هذا هو مبتغى ومطلب الفلسفة والتّفلسف والحكمة.

الفلاسفة العظماء: اليونان، والألمان

في تاريخ الفلسفة كان فلاسفة العالم العباقرة منهم إما من اليونان قديما كـ سقراط وأفلاطون وأرسطو، أو من الألمان حديثاً كـ كانط، والجيل من بعده: ياسبرز، هوسرل، آرندت، هابرماس وغيرهم.

ما الذي دعا الفلسفة إلى أن تكون في حجر هؤلاء؟ وأين تكمن عظمة الفلسفة اليونانية والفلسفة الألمانية؟

يرى فيري أن سبب ذلك يرجع إلى التقارب بين الفلسفة والدّين. فالفلسفة باعتبار ذلك هي علمنةٌ، وعلمنة لدين حيّ. على أقرب مثال يقول فيري، الفلسفة اليونانيّة هي نسخةٌ علمانيّة من الأساطير اليونانية. وكذلك فالفلسفة الألمانية هي إرث عقلانيّ للاهوت البروتستانتي الشّهير: لوثر.

لخّص لوثر بحسب فيري، رؤيته للحقيقة المطلقة بقوله: لا أريد أن أقرأ الكتاب المقدّس بترجمته اللاتينيّة، أنا لا أثق برجال الدين الموجودين في الفاتيكان.

كأنه يقول لنا: دعني أقرأ الكتاب المقدّس بعين عقلي، لا بعقلية الفاتكيان ورجاله. وهذا لعين اليقين العقلاني، أن يقرأ الإنسان الكتب السماوية بعقله لا بعقلية القرون الوسطى، وفيها قيمة متميزة وفلسفية، من جهة ألاّ يبيع الإنسان عقله لرجال الدين حتى لا يحتكروا الحقيقة أولا، وألاّ يكونوا مالكي العقول ومستعبديها ثانيا، فهم يرون أنفسهم مالكين لعقول المجتمع، يوجّهونه كما يريدون، وهذا للأسف ما نشهده بعالمنا العربي الحالي، فمتى سنخرج من ضيق الأفق الذي نبيع فيه عقولنا لغيرنا؟!

قبل وجود الفلسفة كان الشعب اليوناني والألماني يعيشان لحظات مهمّة جدّا مع الدين، ولم تتح فرصة هذه اللحظات للولايات المتحدة الأميركية ولا لفرنسا.

ويختم قوله: ديكارت ليس بفيلسوف جيّد، وعلى عكس ما يراه به الفرنسيّون!


– إعداد وترجمة: منعم الفيتوري

أظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
marsbahisEscortSaatlik escortManisa escortGümüşhane escortfethiye escortzlotcasibombets10bettilt girişcasibom girişslot siteleribetmatikdeneme bonusubonus veren sitelerjojobetfethiye escortfethiye escortbbets10bahisbeydeneme bonusu veren sitelerhholiganbetbahisbeyonwinparabetdeneme bonusu veren sitelermarsbahis giriştaraftarium24fethiye escortfethiye escort
Etimesgut evden eve nakliyatankara ofis taşımacılığıEtimesgut evden eve nakliyattuzla evden eve nakliyatçankaya evden eve nakliyatmersin evden eve nakliyatçekici ankaraAntalya Çitseo çalışmasıtuzla evden eve nakliyatmaldives online casinoankara evden eve nakliyatoto çekiciEtimesgut evden eve nakliyatEtimesgut evden eve nakliyatEtimesgut evden eve nakliyattuzla asansörlü nakliyatpolatlı evden eve nakliyatMedyumniğde evden eve nakliyatyenimahalle evden eve nakliyateskişehir uydu servisigoogle adspubg mobile ucankara evden eve nakliyattuzla nakliyatüsküdar evden eve nakliyatMapsodunpazarı emlakAntika alanlarAntika alanlarAntika alanlareskişehir web sitesikocaeli evden eve nakliyatAntika mobilya alanlarantika eşya alan yerlerantika eşya satmakseo fiyatlarıMetafizikMedyumbmw repair edmontonAntika alanlarAntika alanlarAntika alanlarAntika alanlarAntika Eşya alanlarAntika Eşya alanlarantikaİzmir Medyumweb sitesi yapımıteknede eğlencereplika saatreplika saatreplika saatelitbahisAntika mobilya alanlarAntika mobilya alanlardijital danışmanlıkcin musallatımarsbahis girişmarsbahis girişmarsbahis girişmarsbahis girişcasibom giriş twitter