قبل الحديث عن ماهية الدين في فكر هيغل (1770 – 1831) لاحظ هذا الأخير أن الدين يتمثل أحيانا عند الناس بوصفه زُهداً في الدنيا، وأحيانا بوصف مُشرعاً للقوانين، ليصل الأمر حسب هيغل إلى حد استعباد الناس في دائرة الخرافة، والمضطهد منهم يجد عزاءه في الدين نفسه.
كيف حدد هيغل ماهية الدين؟
لذكر خبر هيغل، سوف يكون معقولا أن يعتمد فيه على الفكرة الشاملة وهذا ما جعله يقول أن: «مضمون الدين هو الحق المطلق، وبالتالي فالدين هو أعلى المشاعر إجلالا، وهو بما أنه معرفة تمثلية، ووجدان، وحدس فإن مهمته هي التركيز على الله [تعالى الله] بوصفه المبدأ غير المحدود»([1]).
هذا التحديد الذي يربط الدين بالمطلق، أمسى ربطه بالمتعين (الدولة) إعلاء لهذا الأخير. بيد أن: «الدين هو الروح على الأرض»([2]). من هنا بدأ افتراقه عن الدولة حسب هيغل. فهل يعارض الدين الدولة حقاً؟ وما تجليات هذه العلاقة في الموجودات البشرية؟
إن: «الدين ينقضي ليكون شيئاً هو مجرد خوف الأفراد، وهو أمر ليس لدى (الدولة) أي فسحة من الزمن للاهتمام به بذاتها، وحينئذ يتأكد أن الدين لا يجب خلطه بدستور (الدولة)»([3]).
هنا، أبان هيغل أن الدين مسألة ذاتية، ولأن صورة الدين ذاتية؛ أي أن قواعده غير ثابتة مثل قوانين الدولة، لا ينبغي خلطه مع السلطة حتى لا يصير الضعف والاضطراب سمة الدولة. هكذا يتخذ الدين طابعا سلبياً، فضلا على أنه يهدد الدولة في حالة خروج هذا الموقف السلبي أمام الملأ، بحيث قد يتجسد في تعصب سياسي وديني.
غير أن الصورة الأصح في الانتقال من الداخل إلى الخارج حسب هيغل، هي تجسد العقل في عالم واقعي (حكومة وقوانين)، وليس في طلب الرشاد من الله –تعالى الله- بحيث تصبح الحقيقة تجلياً لآراء ساذجة قد تدمر المنظومة الأخلاقية بالفعل: «إذا ما انحصر الشعور الديني بقوة في شكله الحدسي فقط، وانقلب، ومن ثم ضد العالم الواقعي وما فيه من حقيقة حاضرة في صورة الكلي، أعني: صورة القوانين»([4]). والأجدر أن يظل هذا الشعور داخليا، بسبب طابعه السلبي.
يقول هيغل إن من يعتمد مرجع الورع ونقاء القلب للحكم على القوانين، يحسب نفسه يمتلك الحقيقة بحيث لا يقبل النقد، أما الدين كما حددناه سابقا (الحق المطلق) فليس يعارض الدولة، بل سيدعمها بحيث يصبح له تنظيمه الخارجي.
- نسبة الأمية في الجزائر 2022 هي الأقل في شمال أفريقيا
- Erotik Öyküler: Bir Başka Bir Bakış
- الكتب الإروائية: نموا شهريا في الإمارat العربية المتحدة
- Povesti erotice: o explorare a pasiunii si a sensualitatii
- Erotic Literature: A Legitimate Form of Art and Expression
هذا يدفعنا إلى التساؤل:
ألن يحدث نزاع بين الدولة والدين في حال تنظم الأخير في شكل خارجي؟
والحال أن الكنيسة مبنى، يتخذ مساحة أرضية، وله نظام مالي، وأناس في خدمته طواعيةً، ولئن ظل الدين: «هو العنصر المتكامل والمعتم للدولة، هو الذي يغرس الإحساس بالوحدة في أعماق نفوس البشر فإن الدولة في استطاعتها أن تطلب من جميع المواطنين الانضمام إلى الكنيسة»([5]).
في هذا الصدد يقول بدوي: «الدولة لا شأن لها بالجانب الذاتي من الدين، وإنما هي تهتم فقط بالتجليات الخارجية للدين»([6]). لئن هو قصد حرية العقيدة، فإنه حق القول أيضا: إن للدولة عقيدتها هي الأخرى، فالدولة على حد قول هيغل نسق العالم الأخلاقي؛ أي الموقف الذهني والروحي للمواطنين، إذ أن: «الدولة ككل تقوم على التربية، تقوم على الثقافة، والتي عليها أن تتقدم إلى العلم والفلسفة. إن الفلسفة يجب أن تكون القوة الحاكمة، وبها ينقاد الإنسان إلى الأخلاقيات»([7]).
هنا، سيدعي الدين امتلاكه لمنطقة الروح، بأنه الآمر الناهي، وملكوت الله، –تعالى الله- وأن الدولة وسيلة لا غير في إطار سطوة الكنيسة هذه.
ليدحض هيغل هذه المزاعم سيقابل غرور الكنيسة بالعلم، هذا الأخير غاية في ذاته، وله منهج خاص به، يجعلنا نقول إن من حقه تسخير الدولة لخدمته.
لكن جعل الروح في صورة علم نظري أو إحساس ديني يناقض تطور الفكرة، قال هيغل: «الروح بوصفها حرة وعقلية هي ضمنا النظام الأخلاقي في حين أن الفكرة في حقيقتها هي العقلانية، وقد تحققت بالفعل، وهذا هو ما يوجد تحت اسم الدولة»([8]).
بيد أن مضمون الكنيسة هو الإيمان والشعور، هنا قال هيغل: «إنه لاستبصار فلسفي ذلك الذي رأى أنه على حين أن الكنيسة والدولة رغم اختلافهما في الشكل، فإنهما لا يتعارضان في المضمون، لأن المضمون في كليهما هو الحقيقة والعقلانية»([9]).
بيد أن ما يميز الدولة عن الدين حسب هيغل؛ أن مضمون الدولة أصبح فكراً متعيناً، غير الدين الذي يتخذ الحقيقة كمضمون لم يصله بعد.
وعلاوة على أنه لا يوجد تعارض على مستوى المضمون، يؤكد هيغل على ضرورة إقامة علاقة بينهما، لكن في ضوء عقلانية الدولة.
وفي ما يخص العلاقة بين العلم والدولة، نجد أن: «الدولة كلية من حيث الصورة، فالفكر هو المبدأ الجوهري لهذه الصورة، وهذا يوضح لنا لماذا يجد العلم وحرية الفكر أصلهما الجذري في الدولة»([10]). في مقابل هذا، تحتفظ الكنيسة بسجل أسود لجرائمها ضد العلم وأصحابه.
وبعد، ينبه هيغل إلى تحول الحاجة الاستنباطية للمعرفة إلى معالجة تنظيم الدولة والأخلاقيات؛ إذ تدخل دائرة الرأي (الظن)؛ لأنها حينئذ تخالف مبادئها. لكن: «إذا ما كان هذا الرأي أو الظن…Opinion هو رأي أو ظن بحت، أعني مسألة ذاتية خالصة دون أن تكون له أية قوة أو سلطة أصلية…فإن الدولة في هذه الحالة قد لا تكترث به على الإطلاق»([11]).
خلاصة
وبالجملة، وحدة الدولة والكنيسة تجتمع في المضمون، لكنها حسب هيغل يجب أن تتخارج في الصورة، والحديث عن وحدة كاملة بينهما، حدث فعلا كما قال هيغل، وذلك في الشرق، إذ أن: «كل ما علموه أن هناك شخصاً معيناً حراً بحرية نزوة وشراسة – هو الطاغية ولا أحد سواه»([12]).
بيد أن ظهور الدولة مختلف تماماً عن هذا الأخير، إذ هي تتمايز معه: «بوصفها التحقق الأخلاقي للروح الذي يعرف ذاته… غير أن هذا التمايز لا ينبثق إلا بمقدار ما تخضع الكنيسة للانقسامات الداخلية»([13]).
[1] هيغل، فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 514 – 515.
[2] المصدر نفسه، ص 514.
[3] هيغل، محاضرات فلسفة الدين، ترجمة وتقديم م.ع.م. ط1. مكتبة دار الحكمة، 2003. (المكتبة الفلسفية) ح3: العبادة وديانة الطبيعة. ص 57.
[4] هيغل، فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 518.
[5] المصدر نفسه، ص 519.
[6] عبد الرحمان بدوي، فلسفة القانون والسياسة عند هيغل، دار الشروق، 1996، ط1، ص 177.
[7] هيغل، محاضرات فلسفة الدين، ترجمة وتقديم م.ع.م. ط1. مكتبة دار الحكمة، 2003. (المكتبة الفلسفية) ح3: العبادة وديانة الطبيعة. ص 59.
[8] هيغل، فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 523.
[9] المصدر نفسه، ص 524.
[10] المصدر نفسه، ص 525.
[11] المصدر نفسه، ص 526.
12] محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2006، ط1، ص 322.
[13] هيغل، فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 528.