بعد سنة كاملة مِن ولادتني، أخذني أبي ولأوَّل مرّة في حياتي إلى الحلاّق ليقصَّ شعري ويعجله قصيرا، حتى أظهر بكامل رجولتي حسب رأيه، لكنني لطالما أحببتُ شعري الطويل المتدلّي على رقبتي، وقد بيّنتُ طرائف هذه القصّة على صفحات كتابي “قاتلي يتدرّب في شيكاغو”.
ما بين مظهر الذكر الجزائري بشعره القصير، ومظهر الفتاة الجزائرية بشعرها الطويل، وما بين الاعتقادات السائدة بين القطيع الجزائري والقائلة بأنّ الشعر الطويل من مظاهر الأنوثة والذكر الذي يطيل شَعره هو ذا رجولة ناقصة، بينما الفتاة التي تقص شعرها هي ما يسميه البعض بـ: المسترجلة..
رحتُ أبحث في الموضوع، وهل يجوز لي أن أترك شَعري يطول أم لا؟
لقد أعدّت إحدى بنات منطقة الشام دراسة حول تاريخ الشعر الطويل ونظيره الشعر القصير لدى الرجال والنساء، عبر الحضارات المختلفة، مركزة على الحضارات التي تعاقبت على أوربا ومنطقة حوض البحر المتوسط..
وبما أنّ الجزائر أساسا قد تأثّرت بالحضارة اليونانية بحكم الاحتلال اليوناني للمنطقة، وبعدها الامبراطورية الرومانية لأنّها سيطرت على كافة ضفاف المتوسط، كما أنّ الجزائر أيضا كانت عرضة للاحتلال الفرنسي، فإنّني حاولتُ التركيز على مسألة الشعر الطويل لدى الذكور “الرجال” لأفهم السبب الكامن وراء إصرار الجزائري على زيارة الحلاّق دوريا حتى يسهر على جعل شعره قصيرا معتبرا ذلك من أساسيات الرجولة، (مضحك والله: الرجولة نتاع الشّعر).
- جبل التروبيك.. الحلقة المفقودة في أزمة الرباط ومدريد
- الذات بلا مغالاة
- فاجعة طنجة.. “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
- ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران
- غليانُ الشُّعُور عبر النظرة الفكرية العالمية
ورد في بحث الآنسة نور معلا بأنّ الشعر الطويل لدى الرجل اليوناني القديم كان دلالة على السلطة والثروة، بينما كان الشعر القصير حكرا على العبيد ودليلا على الخنوع، ومما يثبت هذا التماثيل اليونانية التي تصوّر كافة القادة اليونانيين ومفكّريها وفلاسفتها على هيئة أناس بشعرهم الطويل دائما.
بينما في الإمبراطورية الرومانية فقد استمرّت هذه العادة الاجتماعية إلى أن أصيب قيصر روما بداء الزهري الذي أدّى إلى تساقط شعره الطويل، إذ لجأ إلى صنع تاج ذهبيّ له حتى يخفي صلعته، كونه قد اعتبرها نوعا من التشوه آنذاك، وبعدما استفحل به المرض حتى لم يترك له أيّة شعرة على رأسه، أصدر قانونا يمنع رجال روما، والنبلاء بالخصوص من إطالة الشّعر، لكنّ هذا الأمر لم يدم، فسرعان ما سقطت روما سنة 500م، وأعادت القبائل الجرمانية عادة الشعر الطويل كعلامة مميّزة للنبلاء دون غيرهم من عامة الشعب.
ملِك فرنسا لويس الرابع عشر واجه مصيبة تساقط شعره الطويل في سنّ مبكّرة، حيث تقول بعض الروايات التاريخية بأنّ هوسه بتساقط شعره بدأ في السابعة عشر من عمره، لهذا فقد اهتدى إلى فكرة لامعة وهي توظيف 48 شخصا، من أجل صناعة شعر مستعار له، وقد نجح في ذلك، إذ بدى له من نقص مقامه أن يظهر بشعر قصير بين طبقة النبلاء التي كانت تعتني بشعرها الطويل في المناسبات العامة والحفلات الخاصة أيضا.
اقتبس الملك تشارلز الثاني، ملك انجلترا فكرة الشعر المستعار عن ملك فرنسا، لكنه استعمله في إخفاء الشيب الذي ضرب شعره الطويل مبكّرا مقارنة بسنّه الفتي.
بقيت طبقة النبلاء وحتى العامة من الناس محافظة على شعر رجالها الطويل حتى موعد قيام الحرب العالمية الأولى، وبعد تزايد المشاكل الصحية الناتجة عن القمل والبراغيث، فإنّ جنود الخنادق قد اعتمدوا طريقة قص الشعر حتى يخففوا من حدّة تلك المشاكل.
بينما لدى المسلمين، فإنّ القدوة الأولى لهم، ألا وهو نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، قد اعتنى بشعره الطويل الذي كان يتدلى على كتفيْه، وذلك عبر قيامه بصبغه بالأحمر بواسطة نبات الحنّاء المستورَد مِن الهند، كما كان يفعل تماما بلحيته، حتى يبدو نبي الإسلام بأبهى حلّة وقتها، ولا تزال خصلة شعره الطويلة والموضوعة في إحدى متاحف دبي شاهدة على هذا كدليل مادي.
بينما أغلب الروايات التي وصفت نبي الإسلام خِلقيا، ذكرت طول شعره، خاصة ما ورد في كتاب الشمائل المحمدية، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم – طبقة النبلاء في الإسلام إن صحّ التعبير- حاملين لشعر طويل ما عدا اثنيْن فقط كانا صلّعًا.
لدى المسيحيين لم يختلف الأمر، فصور ومنحوتات النبي عيسى عليه السلام، كلّها تؤرخ لطول شعر هذا النبي الكريم، وهذا موجود على لوحات شهيرة للعبقري رافاييل والداهية دي فينشي خاصة لوحة العشاء الأخير.
في هذه النقطة تحديدا، واعتمادا على رأي أستاذة التاريخ جوانا بيرث من جامعة لندن والقائل بأنّ الشَّعر هو أداة مرئية للتعبير عن الثقافة، فإنّني أرى بأنّ قابلية الجزائري للاستعمار كما يرى بن نبي فيلسوف الجزائر المطرود، هي التي جعلت الجزائري يقصُّ شعره باستمرار، محافظا على عادات العبيد والجنود الذين أصابهم القمل والبراغيث.
لهذا يمكنني أن أؤكد بأنني لستُ مِن هؤلاء، ولا أرغب أن أكون منهم، وكنتيجة لكلّ ما تقدّم: أنا محافظ على عادات النبلاء والأنبياء، تاركا شعري يطول، معتنيا به، فلا علاقة للرجولة بطول الشعر أو قصره أبدا.