الأدب والفكر عصارة تطور مجتمع أو تقهقره، والطبقة المثقفة تكون نخبته، تواكب كل تأثير يطرأ عبر التواصل وآلياته التكنولوجية أو عبر “السلطة الرابعة” الصحف والجرائد ووسائل الإعلام.
فكرتُ مادامت “الصحافة” ووسائل الإعلام عموما أسموها “السلطة الرابعة“، لماذا لا نسمي أيضا ونقترح نحن فكرة أو مفهوم “السلطة الخامسة”؟!
ولتوسعة هذا المفهوم الذي اعتبره مهما جدا يجب أن يكون هو الشعار الذي تهتدي به جماعة الأدباء والمفكرين في كل بلد على حدة، فماذا أعني بهذه التسمية؟
إنه يحسُنُ -من أجل الإجابة الواضحة- الرجوع قليلا إلى ما جرى العرف على تسميته بالسلطة الرابعة، فلقد كان تومس كارلايل [1795-1851] هو الذي استخدم عبارة «السلطة الرابعة» على رجال الصحافة، وكان ذلك في كتابين معروفين من كتبه، هما كتابه عن «الثورة الفرنسية» وكتابه عن «الأبطال وعبادة البطولة»..
لكن مهلاً! أحقاً كان الاسم الذي أطلقه كارلايل على رجال الصحافة يعني بالدقة «السلطة» الرابعة كما أشعنا عنه في الترجمة العربية؟
كثيرا جداً هي الألفاظ العربية التي نقلنا بها معاني من الثقافة الأوروبية، فإذا هي لا تنقل المعاني كما كانت في أصولها، فتنحرف عن مقاصدها، وينحرف تفكيرنا نحن مع انحرافها، فاللفظة التي استعملها كارلايل حين قال عن رجال الصحافة أنهم بمثابة “جمـاعـة” رابعة، لا تتضمن معنى “السلطـة” من قريب ولا من بعيد..
فقد كان البرلمان البريطاني يشتمل على جماعات ثلاث، هي: جماعة النبلاء أو ”اللّوردات“ العلمانيين، وجماعة النبلاء من رجال الدين وجماعة العامة من أبناء الشعب، فأراد “توماس كارلايل” أن يقول: أنه إذا كانت هذه الجماعات الثلاث مقرها دار البرلمان، فهنالك جماعة رابعة مقرها في دور الصحف، وأعني بها رجال الصحافة، وهي في قوة تأثيرها -هكذا قال عنها- تساوي الجماعات البرلمانية الثلاث مجتمعة، فالأمر كما ترى ليس أمر
«سُلطـَة» وإنّما هو تأثير يسري فعله في الناس سريعاً أو بطيئا، حتى تتحول وجهات أنظارهم إلى حيث أُرِيدَ لهَا أن تَتّجَِهْ..
فإذا جئت اليوم لأقترح أن تكون جماعة الكُتاب جماعة خامسة، فلست أعني أن يكون الكتاب ذوي «سلطة» بل أن يكونوا ذوي تأثير في عمليات التحول الفكري والتطور الاجتماعي.
لا بأس أن نستخدم هذا المصطلح “السلطة” شرط أن لا ننحرف بمعناها ولا بمقصودها.. وما يهمني هو أنني قصدت مكانة الأدباء والمفكرين في مجتمعهم، وهي مكانة يوضحها أن نطلق عليهم السلطة الخامسة، فقد كان توماس كارلايل يخص رجال الصحافة بإشارته لاستقلاليتهم بالرأي عن السلطات التي يتألف منها البرلمان البريطاني فالصحافة كمفهوم هي صحافة الرأي الناضج المستنير، لا صحافة التسلية.
المهم هو أنه لو رسخت فكرة “السلطة الخامسة” في نفس الأدباء والمفكرين أو “قوة خامسة” لأمكن بالفعل أن تكون قيادة حقيقية لهذا العالم المضطرب المليء بالمشاكل والحروب الشوعاء، وهذا المعنى يستلزم أن يرسخ ضمن الأمة الواحدة عبر قناة المجتمع وتحررهم من كل تبعية سياسية، حرية الرأي.
نحتاج لهاته الفكرة كثيرا، للخروج من أزمات كثيرة لنفتح صفحات شاسعة لكل مفكر وأديب لأن الأدب وولادة الفكر إنما تكون مرآة عاكسة لحال المجتمع فمعالجة وتشخيص أمراض المجتمع تكون بالفكر فهو طبيبها الوحيد والأوحد.
المفكر أو الأديب “وجهان لعمله واحدة” يملك القدرة على ربط الماضي بالحاضر وكشفه وترسيخه لقيم الخير وهذه أمور أساسية في الأدب ومن أهدافه. فالأديب والمفكر له عين تكشف الغطاء عن روح الأمة، ويد تربط بين أجزاء شخصيتها ومراحل تطورها، وله قدم تسعى إلى مستقبل أرحب.
وهذا لا يتحقق إلا بتوفُّر أدباء ناضجين مسؤولين واعين لقضايا أمتهم ومؤمنين بمعالجتها، فالأديب والمفكر له رسالة، وهذه الرسالة تتطلب منه زادا ثقافيا وفكريا يغني تجربته ويعمق رؤيته للمجتمع والإنسان ولا نفهم علاقة الأديب بمجتمعه أنها انخراط بمشاكل المجتمع، بل نفهمها إحساسا صادقا مفعما بالحب والغيرة والرغبة في تطوّر مجتمعه، فعلاقة الأديب بمجتمعه علاقة تفاعليّة يتأثر بالمجتمع وأحداثه ويتأثر بالوسط الاجتماعي ويتفاعل معه مما يزيد انتماءه وإحساسه.