“السوشيال ميديا”.. حياتنا الافتراضية

اجتاحتنا وسائل التواصل الاجتماعي مثل وباءٍ لا شفاء منه. يتغير العالم بسرعة أكبر من قدرة المتابعين والمحللين على معرفة أي تأثيراتٍ تولدها هذه الوسائل، وأي متغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية تولدها. وقبل الإمساك التحليلي بها، نجد أن العالم قد انطلق إلى مرحلةٍ أكثر تقدماً في وسائل التواصل، تجعلنا مذهولين مما يجري، وغير قادرين على اللحاق به، وغير قادرين على معرفة تأثيراته السلبية وتأثيراته الإيجابية ومجمل القيم الجديدة التي يفرضها علينا.

اليوم، “السوشيال ميديا” هي الأكثر سرعةً في تغيير حياتنا، لم نعد نستطيع أن نبقى خارجه، أو مقاومته، فاليوم، الذي لا يوجد في السوشيال ميديا، لا يوجد في الحياة. إنه الافتراضي بديل الواقعي، بكل ما له وما عليه.

قبل سنوات، ومع انفجار البث التلفزيوني الفضائي، شرعت تحليلاتٌ عميقة، بالحديث عن التغيرات التي تسببها هذه التحولات التي اخترقت كل بيت، وباتت تعمّم قيماً ومفاهيم وموديلات وأطعمة وأجهزة، حتى باتت قادرةً على التحكم باتجاهات تأثيراتٍ خطرة على جموع الناس المستهدفين، وأصبح هذا التأثير يفوق تأثير السياسيين، ما اعتبر تهديداً للديمقراطية، حيث أن مالكي وسائل البث الفضائي والمعلنين قادرون على التأثير في الجمهور أكثر من السياسيين المنتخبين، ما جعل من تقف وراءه هذه الوسائل الإعلامية قادراً على سحق أي منافسٍ له، وليس بقدراته الذاتية وكفاءته، إنما بالقوة الهائلة لوسائل الإعلام.

كرس بيير بورديو سنواته الأخيرة (توفي 2002) لنقد وسائل الإعلام والميديا التي اعتبرها وسائل فاسدة، وتبعية المثقفين الفرنسيين لها عارٌ عليهم، اعتبرهم “كلاب الحراسة الجدد”.

“تبدو أنت صانع الحدث وأنت الجمهور في الآن ذاته، لكن هذه الحقيقة وهمية”

وحسب بورديو، لم تعد القنوات التلفزيونية، خصوصاً الفضائية منها، مجرّد قنوات تقدّم برامج للتسلية أو للتثقيف، فقد أصبحت الأدوات الرئيسية للضبط والتحكم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة. ووفقاً للمصطلح الذي يستخدمه بورديو، فالتلفزيون من أدوات “العنف الرمزي” الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على هذه الأدوات وتسيرها.

وبحكم تأثيره الواسع، يعتبر بورديو، أن التلفزيون، بآلياته المتعدّدة، لا يشكل خطراً على مستوى الإنتاج الثقافي، من فن، وأدب، وعلم، وفلسفة، وقانون فحسب، بل بات يهدّد أيضاً الحياة السياسية والديموقراطية. والمشكلة الرئيسية والضاغطة على التلفزيون، ومعه جزء من الصحافة، أنها وسائل مدفوعة بمنطق اللهاث وراء مزيدٍ من الإقبال الجماهيري. لذلك أتاحت هذه الوسائل الإعلامية للمحرّضين على الممارسات والأفكار العنصرية المعادية للآخر، أو من خلال تقديم التنازلات التي يمارسونها، انطلاقاً من نظرة شوفينية ضيقة الأفق.

حسب بورديو أيضاً، لا تقتصر رقابة التلفزيون على رقابةٍ خفيةٍ من داخل التلفزيون نفسه، وشروط الظهور على شاشته، فحسب، بل هناك رقابة خارجية عليه، وهي ما يسميها بورديو “الرقابة الاقتصادية” أيضاً.

حيث لا يمكن قول شيء عبر التلفزيون غير الذي حدّده من يملكون هذه المحدّدات، أي المعلنين الذين يدفعون ثمن إعلاناتهم، من الدولة التي تمنح الدعم، كذلك من المالك. كل هؤلاء الفاعلون الاقتصاديون يملكون التأثير على التلفزيون، فيصبح الظهور على الشاشة محكوماً برقابات داخلية وخارجية. يشبّه بورديو عمل التلفزيون بعمل الحواة والسحرة، فهؤلاء يقومون بعملهم الذي جوهره جذب الانتباه نحو شيء آخر غير الذي يقومون به.

إن جزءاً من العمل الرمزي للتلفزيون هو عمل مزدوج المهام، يظهر ويخفي، فمثلاً، على مستوى المعلومات، يجذب التلفزيون الانتباه نحو أحداثٍ من أجل إخفاء أحداثٍ أخرى. وإذا ما تم استثمار ساعات البث الثمينة، من أجل أشياء تافهة جداً وفارغة جداً، فإن هذه الأشياء التافهة مهمة جداً، بالقدر الذي تخفي فيه أشياء ثمينة بالفعل.

وحتى يكون الحدث مهماً عليه أن يحظى باهتمام الصحافيين الذين يهتمون أصلاً بما هو استثنائي وخارق للعادة. بمعنى آخر، هناك اهتمامات خاصة للتلفزيون، تفرض نفسها على كل شيء في المجتمع، بما في ذلك السياسة.

“من مفارقات نقد بورديو للتلفزيون، أنه جاء عبر التلفزيون الذي كان وسيلته لتقديم نقده، حيث قدّم ملاحظات ثاقبة”

ومن هنا، يلعب التلفزيون دوراً حاسماً في النضالات. ومن هنا يجب إقامة مظاهرات للتلفزيون أكثر فأكثر، فالمظاهرة التي لا يعرضها التلفزيون لا وجود لها. كما يحتاج التلفزيون إلى المفكرين السريعين، الذين يقدّمون نوعاً من التغذية، تم إعدادها مسبقاً، عن طريق محادثاتٍ تحضيريةٍ مع المشاركين المتوقعين، وهو ما يصنع الفضاء الإعلامي المتواطئ بين العاملين المحترفين في التلفزيون والمفكرين السريعين.

ينتج التلفزيون تأثيراتٍ مستحدثةً لم تكن موجودة سابقاً، بسبب من اتساع انتشاره ووزنه الخارق للعادة، وقدرته على اختراق المنازل، من دون إذن أو تصريح. فمثلاً، يمكن للتلفزيون أن يجمع أمام أي نشرة أخبار مشاهدين أكثر من كل الذين يطلعون على كل الصحف مجتمعين. في وسائل الإعلام، يظهر قانون بات معروفاً، كلما أرادت أداة إعلامية، أو وسيلة تعبير، أياً كانت، أن تصل إلى جمهور مستهدف، كلما وجب عليها أن تفقد كثيراً من حدّتها، أن تتخلى عن ذلك كله الذي يسبب الانقسام ويُستبعد، كذلك على هذه الأداة أن لا تصدم أحداً.

ومن مفارقات نقد بورديو للتلفزيون، أنه جاء عبر التلفزيون الذي كان وسيلته لتقديم نقده، حيث قدّم ملاحظات ثاقبة. هذه الملاحظات التي ينطبق كثير منها على “السوشيال ميديا” أيضاً، والتي يبدو أنها تعمل بطريقة مختلفة عن وسائل البث الفضائي، وتبدو وسيلةً أكثر ديمقراطيةً، لأنها لا تتمركز على نفسها، كما حال البث التلفزيوني. فهنا تبدو أنت صانع الحدث، وأنت الجمهور في الآن ذاته.

لكن هذه الحقيقة وهمية، بمعنى أن الإحساس بأن المشارك في “السوشيال ميديا” بوصفه صانع الحدث من خلال صفحته، فيها وهمٌ كثيرٌ. وبذلك تكون الوسيلة التي تبدو أكثر ديمقراطية، من حيث القدرة على المساهمة بها. ولكن، في الحقيقة، هي في غاية المركزية والديكتاتورية في فرض شروطها علينا.

بل وأكثر من ذلك، إذا كنا في البث الفضائي خاضعين لوسيلةٍ إعلاميةٍ تأتينا من الخارج عبر التلفزيون، فإن السوشيال ميديا اليوم تأتينا من داخل حياتنا، وتنتهكها كما لم تنتهك من قبل، ونفقد خصوصيتنا أكثر يوماً بعد يوم، في وقتٍ نعيش بوهم أننا مُؤثرون، في الوقت الذي نغرق في تأثير “السوشيال ميديا” على حياتنا أكثر فأكثر، وتتحوّل حياتنا إلى حياة افتراضية، وليست حياة حقيقية. إنه الانتهاك الأشد لحياتنا الخاصة، السعداء به لأوهامنا أننا مشاركون فيه، في الوقت الذي نتحوّل إلى عبيد هذه الوسائل.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version