السياسات الاستعمارية لصندوق النقد الدولي

كان النظام العالمي في أربعينيات القرن الماضي يعيش انتشار وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتخبُّطاً في السياسات المالية، فضلاً عن الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية..

وهو الشيء الذي دفع القوى العالمية، بقيادة الولايات المتحدة، إلى عقد اجتماع أممي في عام 1945، ضم 44 دولة، نتج عنه توقيع اتفاقية بريتون وودز، التي تم بموجبها إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين.

وكان الهدف الرئيس من إنشاء صندوق النقد الدولي هو تحقيق النمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، إضافة إلى منع وقوع الأزمات المالية، من خلال إلزام الدول الأعضاء باعتماد سياسات اقتصادية سليمة.

ولكن هذا ما تجسّد لنا على الصعيد النظري حيث أنه سرعان ما بانت للمتابع برامج صندوق النقد الدولي القائمة على الإملاءات والاشتراط المجحف المسلطة على الدول التي تورطت في مستنقع هذا الصندوق. وخير مثال على هذا وحتى لا نتبعد كثيرا هم الدول العربية منها الأردن ومصر ولبنان… العديد من الدول التي ذاقت وبال هذه التجربة المريرة.. والشيء الذي ساهم في تفاقم وتعميق الأزمة الاقتصادية و المالية لهذه الدول.

وما برامج هذا الصندوق إلا تجسيد لرؤية المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية، وأهمها:

– تحرير أسواق المال والتجارة.

– إزاله الحواجز لانسياب السلع والتدفقات النقدية.

– تقليص الخدمات الحكومية.

– وقف الدعم.

– تطبيق سياسة التخاصية لتوسيع السوق الرأسمالي وتأمين فرص أرحب للاحتكارات الرأسمالية.

وهناك من الدول التي نجحت في معاكسة هذه السياسات الاستعمارية للصندوق ولعل التجربة الماليزية خير مثال، فماليزيا التي نجحت بقيادة مهاتير محمد عام 1998 في إنقاذ الاقتصاد ليس لأنها لم تنصاع “لشروط” صندوق النقد الدولي بل عمدت لمعاكسته تماما بحيث نفذت خطة معاكسة.

وها هي تونس اليوم تنزلف في هاوية المديونية والتبعية لهذه المؤسسة المالية، رغم خروجنا من تحت وطأة الاستعمار بميراث من التبعية والاستعمار الاقتصادي القاسي إلا أننا اليوم نسقط في ورطة سياسات صندوق النقد الدولي وأشباهه..

وهذا نتاج لانسياق قديم، إذ نجحوا في جرنا إلى الاعتماد على سياسات الاقتراض بتعلات متعددة منها تقليص نسب الفقر ودعم الاقتصاديات النامية. ويحمله المستقبل هو أن كل حكومة تمسك بزمام الدولة ستجد نفسها أمام موروث متفاقم من الافتراض ومن سياسات إغراق الدولة ومؤسساتها في مستنقع الاقتراض والتبعية ولرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي رأي في هذا إذ جاء في كتابه “من الفكر الإسلامي في تونس” (صـ13) يصب في هذا الإطار نفسه عندما قال: “إن كل المساعدات التي يبذلها الأوروبي سوف تساهم مساهمة فعلية في زيادة التبعية والارتباط”.

فما يصلح تسميته “بالاقتراض الاستعماري” لا يورث سوى تطبيق كافة التوصيات الإلزامية (تعاليم الوصاية) التي تضعها المؤسسات المالية كشرط للقروض التي تحقق من خلالها عودة الهيمنة الاستعمارية بأقنعة جديدة. وبذلك تسقط تلك الدول في شِراك “الانصياع والتبعية والعجز والدكتاتورية المسلطة من المقرضين.”

إن الادعاء من يفني لكم بحيادية تلك “المؤسسات المالية والنقدية” ويبشركم بأنها معزولة عن المنظومة الاستعمارية، فهو صاحب كذبة كبيرة. ولا يوجد دليل أحسن من الرجوع إلى الأرقام والتجارب التي مرت بها الدول الواقعة في فخ هذه المؤسسات المقرضة، فما هذه المؤسسات إلا “مؤسسات مالية استعمارية” تسعى لإفقار الشعوب ونهب ثرواتها لحساب رفاهية “دكتاتوريات المقرضين” عبر “غزو اقتصادي” مقنّع يرتدي ثوب مساعدة “الدولة المتعثرة” و “التصحيح الاقتصادي”.

ولعل أفضل تعبير عن مسؤولية صندوق النقد وما يشبهه مؤسسات مالية في الإفقار وضرب لمؤسسة حقوق الإنسان والتنمية، هو ما قاله الخبير الاقتصادي والمحامي الأمريكي ألفريد دي زاياس، أكد سابقاً أن سياسات صندوق النقد الدولي تتعارض مع حقوق الإنسان، ودعا لإعادة النظر في سياسته المتناقضة.

وقال دي زاياس أيضا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أكتوبر الماضي، إنه يجب على القائمين على تلك المنظمة ألا يتجاهلوا حقوق الإنسان عند منح القروض، وأن يتم التعامل فقط مع الدول التي تفي بالتزاماتها على صعيد التنمية واحترام الحقوق.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version