آدم العبد.. فتى عشريني، ولد وشبَّ بجزيرة (مطيرة).. ٳحدى قرى مدينة (قوص)، الكائنة بمحافظة قنا بصعيد مصر..
تخرج في كلية التربية النوعية بجامعة جنوب الوادي، ولم يلبث أن انهمك في إعداد أوراقه لتقديمها ٳلى مكتب التجنيد، حُدد له موعد للسفر ٳلى المنطقة وسماع الإرجاء.. وكان الحظ حليفه فلم يصبه الدور.
لم يكن لآدم أي طموحات داخل الصعيد، فلم يكد يستخرج شهادة ٳعفائه من الخدمة العسكرية حتى حزم أمتعته وأعد حقيبته واستقل أول قطار متجها نحو القاهرة.
نزل آدم في بيت خاله بناحية الهرم، ولعدة أسابيع ظل يبحث خلالها يوميا وبشكل متواصل عن عمل مناسب يحقق ولو بعضا من طموحه ولكن بلا جدوى..
تذمرت زوجة خاله من طول مدة الضيافة، وتغيرت معاملة زوج الأخيرة بدوره اتجاه ابن شقيقته، وأصبح من الجلي لآدم رؤية نظرات الاستياء المعلنة في أعين أفراد تلك الأسرة الصغيرة وهي تصفحه ذهابا وٳيابا أينما حلَّ..
في تلك الآونة ومزامنة مع تواصل ضغط، وتصاعد استياء الأسرة المُضيفة.. اضطر آدم لقبول العمل بإحدى شركات الأمن وصار من حينها موظفا للأمن بتلك الشركة، يعمل وزملاؤه على تأمين وحماية الأماكن الحيوية الخاصة بالأطراف المتعاقد معها والمتعين حراستها.
ظل الحال جيدا طوال عدة أشهر.. كان يتقاضي خلالها مبالغ مالية جيدة، ويسكن مع بعض من زملائِه في ٳحدى الشقق التابعة للشركة والمخصصة لمبيت المغتربين.. ٳلى أن تم التعاقد مع أحد كابريهات شارع الهرم وتم اختيار صاحبنا ضمن مجموعة أخرى لتأمين الكباريه..
تضايق وتذمر كثيرا، وحاول الاعتراض والتَّملص، ثم هدد أخيرا بترك العمل، ولكن مثل هذه الشركات لا تجدي نفعا معها تلك الحيلة.. قالوا له بذلك البرود الشائع والمشترك بين كل مديرى المؤسسات الخاصة: ٳذا ما قررت ترك العمل معنا -يا فندم- فأبلغنا من الآن حتى يتسنى لنا أن نعثر علي بديل مناسب.
اضطر آدم للمرة الثانية أن يتنازل، منتقلا مع مجموعته المنتقاة لتأمين الكباريه..
ومن تنازل ٳلى آخر.. هذا ما صار ٳليه حاله..
فمنذ أن وطأت قدماه ذلك الوسط العفن، صارت عيناه لا ترى سوى لحم العاريات وسفالة الساقطات، وأمست أذناه لا تسمع غير الضحكات الماجنة والكلمات الخليعة والعبارات الملتهبة، وأخذت تتلاقفه الفتن وتتلاعب به الشهوات وتجتَّره الملذات.
كان لا يدخن أول الأمر.. فصار يدخن السجائر العادية ومنها ٳلى السجائر الملفوفة، ولا بأس بكأس من الخمر من حين ٳلى آخر بداعي المناسبات، وما أكثر المناسبات.
تعرف هناك على واحدة من هؤلاء الساقطات اللائي يبدلن الرجال كما يبدلن ثيابهن.. لم تستغرق وقتا طويلا لتعرف من نظراته المكبوته أنه يشتهيها.. أعجبها شبابه وأحبت فتوته، فتجاوبت مع نظراته وبادلته نفس الرغبة، وبخبرة المرأة اللعوب بددت مخاوفه وسمحت له بالاقتراب رويدا رويدا ٳلى أن أتت به..
بعد عدة مكالمات هاتفية ساخنة على مدار بضع ليالِِ ذاب خلالهن ما تبقى لديه من خجل، وضاع فيهن كل ما اكتسبه خلال حياته من حياء، اتفقا على اللقاء بشقتها الكائنة بإحدى العمارات المطلة على كورنيش النيل، والتي أعدتها خصيصا لتلك الأغراض..
ومع بزوغ فجر اليوم المنتظر.. كان قد انتهى آدم من العمل فبدل ملابسه وخرج متجها نحو سَّكِنة المغتربين، مفعم بالنشوة والرغبة.. تحدثه نفسه بيوم لا مثيل له.. لا عليه الآن سوى التهام وجبة ٳفطار جيدة يخلد بعدها ٳلى النوم حتى آخر النهار، وحينما يستيقظ يحصل على حماما ساخنا ويرتدى تلك الملابس الأنيقة التي أعدها سلفا لذلك اللقاء، ثم يستقل أول (تاكسي) يرمى به عند كورنيش النيل في أحضان فتاته البضة.
بداخل السَّكِنة يدلف آدم ٳلى غرفته.. يلقي بجسده المنهك على الفراش، منتشيا باسما وهو يتخيل تلك الأمسية الواعدة المنتظرة، ثم لم يلبث أن يغط في نوم عميق…
يرى فيما يرى النائم عدة رؤى غريبة ومتداخلة..
فها هو الآن غلام صغير يجلس جوار أمه يبكي من فرط الجوع، وهي تتصبب عرقا أمام الفرن المتوهج.. تعجن الطحين بيدين سريعتين في محاولة منها لتحضير الطعام.. ثم تنهي مهمتها وتضع الخبز بين يديه وهي تنظر ٳليه فَرِحة، فتُفاجأ به يقطب جبينه وينظر ٳليها نظرة جامدة ثم يلقي بالخبز في الطين المجاور للفرن، فتُصعق الأم.
ثم رأى نفسه بمقربة من مقابر البلدة وهو يتحدث ٳلى أحد الأشخاص فيقول له مبررا طيشه وغرقه في المعاصي والملذات.. كلام كثير عن الشباب الوافر وحظوظ الدنيا التي تأتي مرات قليلة معدودة في العمر، وأن أوان التوبة سيأتي في حينه، وأخذ يرغي ويزبد ويتكلم عن دوام المغفرة، وأبواب التوبة المفتوحة حتى طلوع الشمس من مغربها، ثم اختتم حديثه بالآية القرآنية وهو يهز رأسه محاولا ٳقناع صاحبه: (نبأ عبادي أني أنا الغفور الرحيم)
ولم يكد ينتهي حتى سمعَ صوتا عميقا مرعبا يأتي من ناحية المقابر يردد: (وٳن عذابي هو العذاب الأليم).
ثم يرى نفسه وهو يلهو مع أقرانه في فناء المدرسة أثناء (الفسحة)، فيُعصِبوا عينا أحدهم بأحد المناديل القماشية ثم يهرعوا للاختباء منه، وشيئا فشيئا يتبدل محيط الفناء ويتغير شكل معصوب العينين حتى يتحول مسخا مرعبا يلاحقهم بضراوة، فيدخل كل واحد منهم داره ويختبئ، بينما هو لا يزال يهرب ويجري ويبحث عن مغيث فلا يجد، وعن ملجأ فلا مفر، حتى تُظلم الدنيا ويختفي المسخ، تحدثه نفسه بأن معصوب العينين لا بد وأنه يختبئ في الظلام ينتظر الفرصة لينقض عليه.. فيستأنف الهروب مجددا.. يدخل في شارع ويخرج من آخر حتى يجد نفسه أخيرا أمام عدد من العمارات المتراصة، المقابلة لكورنيش النيل.. هاهي عمارة يعرفها.. يصعد الدرج بفزع.. هاهي الشقة.. ٳنها شقة فتاته الفاتنة فيهرع يرتمي على بابها ويدق الباب في عجل وإجهاد وهو يترنح.. يُفتَح الباب.. فإذا هي المسخ!
يجري ناحية السطح وما ٳن يصعد ويعتليه حتى يغلق الباب عليه بقفل كبير مُجنزر، ولم يكد يجلس ليسترد أنفاسه وإذا بالعمارة تأخذ في الارتفاع الشديد الشاهق حتى تصل ٳلى عنان السماء.. بذهول قام ليلقي ببصره من أعلى نحو الأرض فلم يجد شيئا سوى الماء.. النيل قد امتد في الأسفل حوله في كل الاتجاهات وحتى منتهى امتداد البصر ثم تحول فجأة ٳلى العدم وٳلى اللاشيء.. لا معالم ولا أبنية ولا شيء مطلقا سوى الفراغ التام الصارم الممتد من حوله والعمارة الواقف عليها.. والتي بدورها أخذت في الارتفاع والانكماش في الوقت ذاته حتى صارت نحيفة جدا لا تتعدى مساحتها المتر الواحد.. بالكاد تتسع لموضع قدميه عليها..
ثم رأى أمامه خيطا رفيعا طويلا جدا يخرج من تحت قدميه ويمتد ليصل ٳلى كتلة بيضاء منيرة لا يدرك كنهها لبعدها الشديد..
فجأة ينكسر الباب ويدخل المسخ.. ليس أمامه سوى السير على هذا الخيط الرفيع.. المنظر من هنا مرعب لا يوصف، والمسخ سيفترسه لا محالة.. لو كانت هناك فرصة واحدة باقية للنجاة فلا شك أنها عبر هذا الخيط.. يحبس أنفاسه ويضع ٳحدى قدميه ثم يليها بالأخرى ويستمر في الخطو بتؤدة شديدة وبطئ ثقيل.. يقطع شوطا كبيرا يرى خلاله طفولته ودراسته وبداية شبابه..
حتى هذا الوقت كان نقيا طاهرا فمر حتى هنا بسلام.
ثم يرى نفسه أثناء فترة الجامعة.. صحبة غير صالحة ونظرات وأحاديث محرمة فتنزلق قدمه.. ثم يظهر أمامه بعضا من حِفاظه على الصلوات فيتشبث بالخيط ويقف من جديد، ثم يرى علاقته غير الشرعية بإحدى زميلاته في الجامعة فتنزلق قدمه مرة أخرى ثم يظهر صيامه الدائم لرمضان فيتماسك ويقف من جديد، ثم يرى حديثا بغيبة ونميمة فينزلق على ٳثره.. فتظهر أمامه صدقة كانت خالصة لوجه الله لا منَّ فيها ولا رِياء فيستقيم على الخيط مرة أخرى، ولا يزال يرى سيئة فينزلق ثم معروف فيستقيم، وينزلق ويستقيم وينزلق ويستقيم، حتى يلوح أمامه في الأُفق كباريه شارع الهرم وشقة النيل وفتاة الليل الحسناء.. فيدرك أن رصيده قد نفدَ عند هذا الحد ويتأكد حينها أنه هالك لا محاله، وأن الخطوة الفائتة كانت آخر خطواته على هذا الخيط الرفيع، ثم تنزلق أقدامه بقسوة فيسقط مذعورا.. مترديا بسرعة جنونية من أعالي السماء ٳلى قاع الهاوية.
يستيقظ آدم في آخر النهار في الموعد الذي أراد، ينظر من خلال النافذة فيرى ضوء النهار وقد بدأ يخبو رويدا رويدا، يطل برأسه من الشرفة فيستمع لأصوات العربات في الشارع وهي تحدث ضجيجا، وأصوات الصبية الصغار وهم يلعبون بالكرة، وضحكات الرجال المتسامرين الجالسين على المقهى بالأسفل.. في محاولة منه لطمأنة ذاته والدخول من جديد في الشعور بالحياة، ثم يتذكر تلك الأحلام المخيفة التي رأىَ فيحدث نفسه بأن ذلك كان نتيجة إكثاره من الشراب ليلة أمس باﻹضافة ﺇلى قلقه المبرر والطبيعي جراء شروعه في ﺇقامة أول علاقة من هذا النوع في حياته.. يحاول الهروب من تلك المخاوف والأفكار فينهض نشطا وهو يترنم بمقاطع من بعض أغانِ مختلفة، ثم يدخل ليحصل على حمامه الساخن.. يخرج فيرتدي تلك الملابس الأنيقة التي أعدها سلفاً بعناية، ثم ينزل ﺇلى الشارع ليستوقف (تاكسي) أُجرة.. وقد انتهى أخيرا من إسكات تلك الوساوس المتصارعة في نفسه، وحسم النزاع الدائر في أعماقه.
بلهجة صعيدية وهو يلوح بيده: فاضي يا ريٍِس؟
يتحرك (التاكسي) به نحو المخرج ﺇلى الشارع الرئيسي ثم يستطرد السائق قائلا: على فين العزم يا بلدينا؟
فيجيب على الفور: محطة قطار رمسيس، عائد ﺇلى الصعيد ﺇن شاء الله.