القمر شاهد على الجريمة

كان الليل قد أرخى سدوله، والسماء أوقدت مصابيحها، وقد تربع سراجها المنير بين كل تلك المصابيح فبدا كملك محفوف بحاشيته، أو كراع يرعى أغنامه. حينها كنت وصديقاتي بين أسوار الحي الجامعي نتمشى مثنى مثنى، نتبادل أطراف الحديث تارة، وتارة أخرى نستمتع بالنظر إلى القمر فكان هذا الأخير خيط النور الذي تذكرت به صديقتي التي كنت أواكبها قصة من قصص الصداقة؛ قد تكون حدثت حقا أو مجرد نسج من نسيج خيالات الأجداد… سردت الأحداث بكل أحاسيسها التي أججت بداخلي الرضا بعلم ربي..

(في غابر الأزمان عاش صديقان، قد تعاهدا على الإيخاء والحب والوفاء، ولما بلغا أشدهما كان لابد من إيجاد النصف الآخر ليتم النقص، فبادر أحدهما بمشورة ثانيهما فكان خير المستشار إذ دله على أهل بيت يصاهرونه ليس معرفة بالنصف الآخر ولكن معرفة برجال بيته فهذا المتعارف عليه عندهم: “انكح الفتاة لرجال بيتها”… تزوج صاحبنا وقد كانت الفتاة قمرا يمشي على الأرض: جميلة، خلوقة… وبالتالي تم النقص.

مرت الأيام والزوجان سعيدان، وفي أحد المرات بينما كانت الزوجة وحيدة تمشي لحاجة لها إذا بها تلتقي بصديق زوجها دون أن يعرف أحدهما الآخر، وهنا حدث ما لم يكن في حسبان الصديقين فقد انبهر الآخر بجمال زوجة صديقه بل أحبها، “حب من النظرة الأولى” فباتت شغله الشاغل، وهدفه القادم، فراح يسأل ويستفسر ليصدم في آخر المطاف بالحقيقة المرة: حبيبته هي نفسها زوجة صديقه التي دله عليها في يوم من الأيام، ولكن لا سبيل فقد أعمى العشق البصيرة ولا خلاص من شراكه إلا بالظفر بمعشوقته… فتحرك بداخله صولجان الشرور ليكون سيد التفكير، وما كان من الجسد إلا التنفيذ.

فاختار ليلة مقمرة -كليلتنا- ليصطحب صديقه في نزهة إلى غابة فاتنة الجمال حيث الطبيعة وحدها من يعبث بالمكان: أشجار وقد غطتها عباءة الليل فبدت كحراس لمملكة، وزهور قد لونها ظل الأشجار فكانت كأقزام الأميرة “فلة” وهناك حيث النجوم. كان القمر مستيقظا يقظا فأضفى على المكان رونقا خاصا…

راق المكان للغافل الحيران؛ فمنذ زواجه لم يلتق الصديقان بسبب سفر العاشق، تجاذبا أطراف الحديث ليصل بهما إلى المهم: “الصديق يعشق زوجة صديقه”، واصلوا الحديث ليصلوا إلى الأهم: “الصديق يريد أن يتزوج زوجة صديقه”، فتعالت الأصوات وراحت مدوية في الأفق ولا من آذان تستقبلها سوى أوراق الحراس وبتلات الأقزام، ولما كان صولجان الشرور قد أحكم سيادة فكر العاشق كان الموت حلا للمشكلة!

ولكن موت من؟! ومن قابض الروح؟!.. طبعا موت الزوج، وقابض الروح ملك الموت، لن تكون أنت الفاعل أيا عاشقا كل الذي ستفعله: أن تضع حدا للمشكلة، أن تظفر بمحبوبتك، أوا يرضيك أن تكون في حضن غيرك؟!..

كان حديث نفس العاشق ولكن جهر به فسمعه الزوج فما كان منه إلا أن يردد وقد ارتفعت سبابته تشير للقمر: (سيكون القمر شاهد الجريمة)، تعالت الأصوات من جديد وتشابكت الأيادي: العاشق يحاول القتل، والزوج يحاول الخلاص.. فكانت النتيجة أن قتل الزوج، فرفرفت حينها الغربان مطلقة نعيبها، وهبت الرياح مبعثرة الأقزام، عابثة بالحراس، وتلاشى القمر خلف غيوم جاءت تعزي الزوجة فقد باتت أرملة، وحيدة بلا سند ولا معين وصارت نصفا من جديد بعدما كانت بزوجها كوبا من التمام..

وتوالت السنون ثقيلة متباطئة وكأنها تحاكي حال الزوجة، فقد تزوجت صديق زوجها ليس عن حب ولا إرادة بل اتقاء لألسنة المجتمع فكما تعلمون هي “أرملة” ولا يحق للأرملة أن تهنئ بحياتها إلا بعد الزواج -حسب قوانين التقاليد- تزوجته دون أن تعلم بالجريمة، وأنجبت منه أطفالا..

وياللمصادفة! هاهي ذي ليلة مقمرة -كليلة الجريمة وكليلتنا هاته- أراد العاشق أن يذهب بزوجته وأطفاله للتنزه في إحدى الغابات الجميلة فكانت غابة الجريمة، وبينما الأطفال ملتهون بالأقزام والزوجة جالسة تتأمل القمر وزوجها العاشق، هبت رياح الذكريات لتبعثر فكر العاشق فهاهو ذا بعظم لسانه يروي ما حدث…

روى كل شيء منذ لقائه بزوجته وصولا لليلة الجريمة دون أن يعي ذلك، أبدت الزوجة لامبالاة منها لما تسمعه، لشيء واحد فقط لتعرف الحقيقة كاملة وتنقلها صباحا لأهل الاختصاص، فكانت النهاية أن قضى العاشق أيامه الباقية في السجون…

عند انتهاء صديقتي من سرد القصة زاد إيماني فمن أنطق لسان العاشق حتما سينطق ألسنة من ظلموا وتجبروا وعاثوا في الأرض فسادا، حتما ستكون هناك نهاية مشابهة لأولئك الذين قد جعلوا من أوطان العرب ساحة لتنفيذ مخططاتهم الدنيئة، وملعبا كرتهم فيه القذارة، ستعلى راية الحق مرفرفة فوق كل الرايات وسيغدو وحده العدل سيد المجتمعات؛ فنم يا مظلوما قرير العين هنيئا فلك قمر ونجم وسماء وزهر وشجر، كلها قد جعلها ربك شواهد على الجرائم التي ارتكبت في حقك.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version