قد تتشارك العديد من البلدان اختصاصات أكاديمية وفروعا جامعية متنوعة إذ نجد في كل الدول حول العالم اهتماما مستتر بالتعليم والطب والهندسة والبرمجة باعتبارها اختصاصات أساسية، وكذلك الحال في تونس مع تعديل بسيط هو أن الإهمال لحق بكل مجال ولكن بدرجات متفاوتة وذلك دون اعتبار أي خصوصية رغم أنها تضم اختصاصا فريدا ومميز.
في الأصل كل نادر نفيس وكل نفيس يعتنى به ويعطى حقه، ولكن ذلك لم يكن حال قلعة النضال،
ما هي هذه القلعة؟ سؤال جيد!
إنه المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي بمدينة بئر الباي في تونس.
لمحة تاريخية
أسس المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي سنة 1943، وفي سنة 1956 أصبح مركز وطني للتدريب الإداري وتحول سنة 1966 ليصبح المدرسة الوطنية لأطر الشباب والطفولة وتطور المعهد مع السنوات ليضم القطاع الثقافي أيضا وتم ذلك رسميا سنة 1995 ليصبح اسمه المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي أو باختصار فرنسي ISAJC.
ما يقدره الطلاب والأساتذة بحق هو الموقع الاستراتيجي للمعهد والبيئة الخلابة المحيطة به، إذ يقع المعهد وسط غابات مدينة بئر الباي فتحيط بها أشجار الصفصاف والصنوبر من كل اتجاه.
ومن الخلف تهب أمواج البحر بنسيمها البارد في أركان الساحات الفسيحة والمباني العتيقة ذات التصميم العربي والمغاربي المميز بقاعات متفرقة ومساحات استراحات واسعة وقباب تبث في ناظرها روح الهندسة المعمارية التقليدي، حتى أن بعض الطلبة يسمون معهدهم بالقبة الزرقاء لارتكاز قبة زاهية باللون الأزرق والنقوش وسط الطريق التي تؤدي مباشرة إلى حرم المعهد.
ومن الروايات التي تصدح بها الأفواه أن مكان المعهد كان ملاذ الباي حين يحين موعد جمع الضرائب، وما تزال العديد من الأماكن في المعهد تشهد على حضوره كمكان ربطه لحصانه الخاص والبئر الذي صارت قبة ورمزا للمعهد وكذلك المرفأ أو الميناء الذي كانت ترسو به السفن ومازالت أساسات المرفأ الخشبية قائمة ترتطم بها المياه المالحة على الشاطئ إلى حد الآن.
ما يقدمه المعهد
إن رواد المعهد وعشاق التنشيط يعتبرونه مكانا مقدسا ومحبوب لأنهم يتعايشون مع النظم الإدارية والبرامج التعليمية في مجتمع طلابي صغير إذ لا يتجاوز العدد الجملي للطلاب سنويا الخمس مائة طالب وطالبة مما يعزز فرص تعارفهم في وقت وجيز وبالتالي يمتن علاقاتهم ببعضهم البعض وييسر سبل التواصل والتفاعل.
بالإضافة إلى نوع الدراسة في حد ذاته إذ أن النموذج الأكاديمي يوفر للطالب تعليما نظري موسع وآخر عملي يضمن له نشاطا يومي مميز وفعال.
ومن ضمن المواد التي قد يدرسها طالب الإجازة في الوساطة الثقافية أو في التنشيط الشبابي وهما اختصاصان يشتركان تقريبا في 90% من مواد المنهج ونذكر من أهم هذه المواد: علم النفس، علم الاجتماع، علم نفس المراهق، علم الإحصاء، العلوم العصبية، الإعلامية، حقوق الإنسان، تقنيات التنشيط، سينوغرافيا، الفنون التشكيلية، الموسيقى، مناهج البحث العلمي، المسرح، الأثروبولوجيا، الفزيولوجيا، التنشيط الرياضي، الإيروبيك…
يعمر المعهد بكل هذه المنابع العلمية وأكثر حتى يتكون الطالب تكوينا شاملا يساعده على فهم كيفية التعامل مع رواد دور الثقافة والشباب ويؤهله للخوض في معترك الحياة المهنية التي تتطلب منه خصالا ثابتة من ذكاء عاطفي وسلاسة اجتماعية وفكر متنور ومفتوح يتقبل كل الاختلافات الثقافية والايديولوجية.
النضال شعار أجيال
رغم كل هذه الميزات التي يحظى بها المعهد إلا أنه ذلك الثمين المهمل كمؤسسة جامعية وكمصدر سنوي لطالبي حق التشغيل الذين يعانون اليوم من بطالة طويلة المدى أمام تعسف الدولة وتسويفها المستمر لملفات الانتداب وهي ملفات استحقاق من المفروض أن لا يشحذ أصحابها العمل بل يكرموا به بعد سنوات الجهاد في طلب العلم والسهر على تحصيل تكوين بناء..
إذ أن المنشط مؤطر للشباب ومرب للناشئة ولا يقل شأنه عن الطبيب والمعلم والمهندس، بل لعله يتصدر قائمة أنبل الوظائف في المجتمعات التي تحترم شعبها وتعمل على بناء هيكلة جذرية لمجتمع متقدم ينشأ أفراده على القيم الشبابية والأخلاقية والاجتماعية والوطنية.
إلا أن الواقع يصطدم بأحلام الطلبة المستقبلية ويزج بهم في دوامات البطالة الخانقة ومن هنا يبدأ النضال الطلابي المستمر للمطالبة بحق التشغيل بعد أن شهدت أجيال وأجيال مرارة المماطلة وقهر العجز المادي.
فعلى سبيل المثال منذ سنة 2010 توقفت انتدابات اختصاص التنشيط الشبابي بشكل تعسفي إلى أن شهدت فرجا مذلا لا يرتقي إلا لأن يكون مجرد مسكن شكلي لمعاناة خريجي المعهد ففتح انتداب لـ64 خريجا فقط.
واليوم لا تتوقف إضرابات الطلبة وحرب الأمعاء الخاوية كآلية قاسية للضغط على السلطات المعنية.
إن تاريخ النضال في المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي في بئر الباي لا يتوقف على السنوات الأخيرة إذ ذاق الطلاب المناضلون الويلات في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي لما حرم ثلة منهم من إكمال تعليمهم الأكاديمي وزج ببعضهم في السجون ووُضع الآخرون تحت الرقابة البوليسية والبعض الآخر ترك البلاد عنوة طالبا اللجوء السياسي في بلدان أوروبية.
مازال المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي مولدا لأجيال من خريجي الاختصاص الذين لن ينفكوا أبدا عن التحصيل العلمي والنضال الحقوقي وكذلك كسب الانتصارات والرهانات وخير شهيد على ذلك الانتصارات الأخيرة التي حققها خريجو اختصاص التنشيط الثقافي.
وستظل القلعة قائمة عامرة مفعمة بالحياة ورحما ولودا للقامات والأسماء.