إنّه الموت يلاقينا عندما نفرُّ منه، ولضعفنا يهزمنا بأوّل ضرباته..
يفقد الفرد الإنساني الكثير وهو يسير على طرقات الحياة المتعرّجة، يحمل الكثير من الأثقال والجروح بينما يكون منهمكا في التركيز على سيره محاولا تفادي هلاكه الذي يأتي بلا ريب، يحاول عبثا تجنّب الألم والحزن، لكنّهما يزورانه بلا ميعاد ولا حتى استئذان.
يقع في المطبّات، وسرعان ما يثب واقفا من جديد، فنعمة النسيان لا يمكن لأيِّ إنسان نكرانها، هي الحياة تخفي الكثير وتمنحنا القليل لنسعد أو نحزن بلا وَجل.
الموت رحلة حتمية لا مفر منها
عندما يفقدُ الفرد الإنساني عزيزا عليه، يشعر وكأنّ الأرض قد توقّفت عن الدوران، وكأنّه يواجه العالَم بمفرده، وكأنّه يسير على الطريق الموحش بلا حماية، وكأنّ قلبه قد توقّف عن الخفقان، وكأنّ الدنيا ليست له ولا هي تأبه لأيّامه، وكأنّه قد أحرق جزء من أصابعه فجأة، فيدخل في نفق من الدموع والأفكار.
إنّه الموت يلاقينا عندما نفرُّ منه، ولضعفنا يهزمنا بأوّل ضرباته..
وبعد محاولات من التوهم والكذب على الروح، يصطدم الفرد الإنساني بالمواقف التي لطالما حاول الهروب منها، فيشعر بذاك الثقل الرهيب ويسود عقله صمتا عجيب، يفقد بسببه الفرد الموجوع توازنه لفترة من الزمن، طويلة على النفس قصيرة بما يعدّون.
تهوي الدنيا بطرفة عين أمام الإنسان، ذاك الذي خسر أحد أحبائه للتو، فتصبح بلا معنى..
يلوم العالَم كلّه بسبب ما أصابه، يطرح الكثير مِن الأسئلة حتى يتعب، ثمّ يسترجع القليل من الثبات..
بعدها يشرع في الإجابة عن ما طرحه عقله واحدا بعد الآخر، وطبعا الدين يلعب الدور الحاسِم في هكذا مواقف، فتصبح جعبة الآيات من الكتب السماوية كنزا ثمينا للغاية، كطوق للنجاة من هذه المصيبة الكبرى، التي نسمّيها مجازا بالملهاة.
ما أشدّ الوَقع على الذات عندما يودّع الإنسان أحد أحبائه، وهو يعلم مسبقا بأنّه يضع ذاك القريب إلى قلبه في مأواه الأخير..
رحلة حتمية لابد منها، بتذكرة ذهاب بلا عودة، دُفع ثمنها مسبقا بالألم، الصراخ والأحزان، ما أتعسك أيّها الإنسان.
ما باليد من حيلة حينما تتعلّق المسألة بالموت، ما بالعقل من مخرج حينما يفشل الفرد في مواجهة الأقدار، ما في الروح من مهرب عندما تُطرح المسائل المصيرية أمام البشر عبيد الله سبحانه القادر الجبّار.
يهون كلّ شيء، وترتفع الأبصار إلى الواحد القهّار، تزول كافة الأوهام، وتسقط كل الأقنعة عندما يقف الفرد البشري ليضع أقرب الناس إلى روحه في تلك الحفرة المظلمة بمقاييس الأحياء.
يا الله ما أصعب الوداع وقت الرحيل الأخير.
الموت سنة الحياة
ضعف الفرد الإنساني يجعله يستسلم لسنن الحياة، فتراه يخضع للنهايات بشكل كامِل، ومَن كان بالأمس يردد عبارة: لن اَستسلِم!
تجده اليوم أوّل المنهزمين والمهزومين، فتراه غارقا في تلك الدوّمة التي فاجأته بين شقائه وشفائه بشكل لا مجال للهرب..
حتى تصبح المواجهة غير مجدية، فيرخي الفرد البشري أواصره أمام تلك القوّة المتعالية، ليعيطها ذلك الحق الأزلي في انتشاله من حياته بلا هوادة.
عملية مؤلمة ولكنّها حاضرة ودائمة الحضور منذ البدايات، أليس سكّان القبور أكثر عددا مِن الأحياء؟
ألغاز أيّامِنا كلّها تجتمع في دمعة واحدة، تسيل دون إذْنٍ منّا، تجرف في طريقها سنوات مِن الصحبة والمودّة، وحتى أيّاما من الاختلاف والشغب، لتضع كلاًّ منّا في مكانه الذي لم يختره أحد، وبلا مقدّمات ولا خواتم، يتم الأمر الذي قضي منذ زمن بعيد للغاية.
إنّها تلك الحركة البسيطة لدى مدير الكون الذي يعتبره الكثيرون جوهرا مقدّسًا، والعظيمة عندما تقع على البشر، تجعل الجميع بلا فهم ولا إدراك، لأنّها مبطلة للاستفسار، قواعد المنطق العقلاني وحتى الاستيعاب الذهني البشري.ف
يُقضى الأمر الفَصل في الآية رقم 30 من سورة الزمر: “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ”.