تتعدد الطبوع الفنية الجزائرية وتتنوع من منطقة إلى أخرى، لكن تبقى الموسيقى الأندلسية من أهم الفنون الموسيقية الراقية التي تستقطب جمهورا واسعا وتحظى برواج كبير في كل ربوع الجزائر.
حيث لا يزال صدى أنغامها يحاكي ذاك الزمن الجميل. وهذه الموسيقى هي تراث موسيقي مشترك بين كل بلدان المغرب الكبير وإحدى حلقات الوصل بين الشرق والغرب.
حملها المورسكيون مع أمتعتهم وعاداتهم وتقاليدهم عند مغادرتهم الأندلس وتوجهوا بها إلى شمال إفريقيا أين حطوا الرحال، بعد سقوط غرناطة حين بدأت محاكم التفتيش والهجمات الصليبية سلسلة التهجير والطرد والتعذيب.
ومن غرناطة آخر مملكة أندلسية توجد بها آخر مدرسة موسيقية إلى مدينة تلمسان الجزائرية، المدينة التي تشبه الأندلس بعمارتها وتقاليدها وكل تفاصيلها، مثلها مثل العديد من المدن التي استقبلت الأندلسيين اللاجئين على غرار بعض المدن المغربية والتونسية التي تحمل روح الأندلس.
الموشحات.. طابع فني ظهر أول مرة في الأندلس
ظهر هذا الطابع الفني لأول مرة في الأندلس في القرن العاشر ميلادي على شكل نصوص أدبية مُغناة، ترعرعت هناك واشتهرت باسم الموشحات.
وهي تسمية مشتقة من وشاح المرأة، أي الحزام المزَيَن والمرصع باللآلئ والجواهر الذي يضفي جمالا وجاذبية على مرتديته، المعنى الذي أراد الشعراء الأندلسيون أن تحمله الموشحات كإضافة ساحرة تزيد الأدب والفن رونقا وتألقا خاصا، فكان أول ظهور لها كقصائد غنائية جديدة في الشكل والمحتوى، ارتبطت ارتباطا وثيقا بالأندلس لأنها مهد هذا الفن الأصيل.
تختلف الموشحات عن القصائد العربية الكلاسيكية بتعدد أوزانها وقوافيها في الشعر الواحد.
وفي هذا الاختلاف قال ابن سناء الملك في كتابه (دار الطراز في عمل الموشحات):
بأن الموشح هو “كلام موزون على وزن مخصوص”.
يعني أن الموشح يكون ملحنا دائما وقد يسبق اللحن وضع الكلمات، فتصاغ الموشحة على حسب اللحن الموضوع آنفًا، وكل موشحة تنقسم إلى أجزاء، الجزء الأخير يسمى الخرجة ويكون باللغة الرومانثية، وهي لهجة إيبيرية قديمة هجينة من اللاتينية والعربية.
أما بقية الأجزاء فتكون باللغة العربية أو العبرية، وهذا استجابة لذوق شعبي للمجتمع الأندلسي متنوع الثقافات والأديان والأعراق، مجتمع خالي من العصبية والعنصرية يتمتع بقدر كبير من التعايش والسماحة.
ويمكن القول إن الموشحات هي نمط جديد مستقل بذاته، نتج عن التزاوج بين موسيقى النصارى وهو الغناء الشعبي الاسباني الذي كان متواجدا قبل دخول المسلمين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، وبين الغناء والشعر العربي الذي قدم من المشرق عندما حل المسلمون ببلاد الأندلس، وهكذا ساهمت الموشحات في مد الجسور الثقافية بين الشرق والغرب.
وقد تطورت تطورا كبيرا خاصة بمجيء زرياب، مؤسس أول مدرسة موسيقية على أرض الأندلس، فظهرت كمادة سمعية عالية التذوق بعد مرافقتها للآلات كالعود والربابة والقانون والطنبور وغيرها.
استمر ازدهارها في الأندلس لمدة أزيد من ستة قرون إلى غاية سقوط غرناطة عام 1492م، وقد انتقلت فيما بعد إلى سائر البلاد العربية كالمغرب العربي، مصر والشام، ووصلت أصداؤها إلى أوربا.
You can get strong and natural hair by having a Hair Transplant. Strong hair supports your image and gives you self-confidence.
الموسيقى الأندلسية
بعد ذلك تحول هذا الإرث الفني إلى موسيقى ذات طابع مميز يختلف عن باقي الأنماط باستعمال النوبة وبانفراد ألحانها، نصوصها، آلاتها وأناقة أجواقها، إلى أن اتخذت اسم: الموسيقى الأندلسية، نسبة إلى أصلها الأندلسي البحت الذي يشترك فيه الشرق والغرب، وتعتبر الموشحات من أهم مقومات هذه الموسيقى ومن المكونات البنائية لهذا الفن الراقي.
الموسيقى الأندلسية في الجزائر
عند نزوح الأندلسيين إلى الجزائر توجهوا إلى مدينة تلمسان شمال غرب الجزائر، المنطقة التي استقبلت أكبر عدد من المهاجرين مع العديد من المدن المغربية، خاصة الوافدين من غرناطة وهم إلى يومنا هذا يشكلون أغلب أصول سكانها الذين يتميزون عن بقية سكان الغرب الجزائري في اللهجة والطباع والعادات والتقاليد الأندلسية الموروثة.
نزلت الموسيقى الأندلسية مع موجات الهجرة المبكرة إلى تلمسان، فيما أكد العديد من المهتمين والباحثين في التراث الأندلسي إلى أنها قد انتقلت قبل سقوط غرناطة نظرا للعلاقة الوطيدة التي كانت تربط الزيانيين ببني الأحمر.
ثم استقرت هناك مع أولى الهجرات الأندلسية عند سقوط غرناطة، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من التراث الموسيقي الجزائري بعد أن صبغت بصبغة جزائرية وامتزجت بالموسيقى المحلية، وانبثقت عنها طبوع وفروع أخرى مثل الحوزي، المالوف، الصنعة وكدا الفن الشعبي.
كما تم تأسيس مدارس موسيقية للمحافظة على هذا الفن:
أولها مدرسة الغرناطي للموسيقى الأندلسية بتلمسان التي تبنت واهتمت بهذا الموروث الثقافي فحافظت على أصالته وواصلت أعمال التجديد بداخله، وهناك أيضا مدن مغربية شقيقة تشترك في نفس النمط الأندلسي.
ثم ظهرت فيما بعد مدارس أخرى تقدم نفس الأنغام الأندلسية لكن كل واحدة تتمتع بخصوصية عن البقية وهم:
مدرسة الحوزي ومدرسة المالوف
مدرسة الحوزي التي انبثقت من مدرسة الطرب الغرناطي بنفس المدينة، تليها مدرسة المالوف بولاية قسنطينة في الشرق الجزائري وهو نوع موجود أيضا بكل من تونس وليبيا، وفيما بعد مدرسة الصنعة بالجزائر العاصمة.
وقد تنفرد مدينة تلمسان عن البقية بكونها أول ولاية جزائرية احتضنت الفن الأندلسي، فلُقِّبَت بـ غرناطة إفريقيا ولا تزال إلى يومنا هذا عاصمة الموسيقى الأندلسية الجزائرية ومعقل العديد من الفنانين الذين ساهموا في الحفاظ على أصالة هذا الفن وحيويته التي تمتع بها منذ زمن بعيد وفي نفس الوقت لم يمنع من تفتحها على الحداثة الموسيقية.
وارتبط الطرب الأندلسي الجزائري بمكون نغمي لا يمكن الاستغناء عنه وهو» النوبة« أي الدور أو التناوب، وهو نظام موسيقي على شكل مقطوعات مكونة من مجموع أنغام وألحان، مرتبة على مراحل أو أدوار إيقاعية يكمل بعضها بعضا حتى تشكل أداء موسيقيا متكاملا. النوبة تخص الموسيقى الأندلسية فقط، وتعد أيضا أحد ابتكارات زرياب. ويبلغ رصيدها أربعة وعشرين نوبة بعدد ساعات اليوم، حيث جعل زرياب لكل ساعة نوبة.
إلا أنه لم يصل إلينا من الأندلس سوى خمسة عشر نوبة، وانتقلت الموشحات من الأوساط الشعبية إلى القصور والحفلات الدينية والوطنية، وأصبحت جزءا أساسيا في الوصلات الغنائية بكل مواسم الأعياد والاحتفالات والتظاهرات، وصنعت لها جمهورا خاصا من الذواقة وعشاق هذا الفن بالجزائر.