الوصايا الأخيرة للمهاجرين

على وقع انتشال جثث المهاجرين التونسيين الذين غرقوا عرض البحر، بعد أن صدمت مركبتهم باخرة لجيش البحر التونسي، يحتدم الجدل حول أسباب ارتفاع الهجرة السرية. وقد تابع التونسيون، بدهشة ممزوجة بالألم، مئات “الأفلام الوثائقية” التي ينشرها المهاجرون غير الشرعيين على صفحات التواصل الاجتماعي، وهي توثيق حي للرحلة القاتلة، بما فيها أدق التفاصيل أحيانا، حتى آخر اللحظات قبل حلول الكارثة.

تجري الرحلة القاتلة أحيانا، مترددة بين مشاعر الرجاء والخوف من الموت. ولكن تظل شهادات الشبان وتصريحاتهم، وهم على قوارب الموت التي تتقاذفها أمواج المتوسط موجعة.

لا خوف بعد اليوم، هذا شعار رفعته حناجر الشباب أيام الثورة، ولكن لم يدر في خلدها أنها سترفعه بعد الثورة أيضا في وجه بعض السلطات الأمنية التي كانت تتعقبهم، وتعلن أنها حققت نجاحات غير مسبوقة في الكشف عنهم، وتفكيك الشبكات التي ترحلهم، والقبض على المنظمين، وإحالة المهاجرين إلى القضاء.

ها هو الشباب الذي أنجز الثورة، وانتظر منجزاتها، لم يعد يخشى شيئا، بما فيه السلطات الأمنية التي يعلم أنها ستطّلع على ما ينشره عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد لديه ما يخسره، وهو يخسر حياته أصلا.

تتراوح الأفلام المسجلة ما بين أغان شعبية وأناشيد وشعارات وأدعية. تتوزع مواضيعها على أغراض عديدة، تدور جلها عموما حول توديع الأم والاستغاثة بالأولياء الصالحين وسبّ الطبقة السياسية، والتحسر على وطنٍ ضيعوه، فضيع أبناءه، والشكوى من غربةٍ بدأت بعد ظالمة وقاهرة. لم تسلم الحكومات التي تعاقبت من ذلك الغضب، لأنها غدرت بهم، وساقتهم إلى سجن أكبر، حيث أهدرت كرامتهم وسحقتهم تحت جبال من الإقصاء والتهميش والاحتقار.

يستوحي الشبان، وهم يسجلون رحلتهم المميتة، عبر هذه الشهادات الحية، والمباشرة أحيانا، “أعمالهم الوثائقية”، من رسائل الوداع التي يوثقها الانتحاريون، قبل القيام بعمليات التفجير القاتلة، أي وهم ذاهبون إلى موت محقق. ومع ذلك، فإن المهاجرين تظل أحلامهم في الوصول أحياء إلى الضفة الأخرى كبيرة. ثمة مغامرة، أو بالأحرى مقامرة بالحياة ذاتها على شاكلة لعبة الورق.

يبدو أن ذاكرة التونسيين قصيرة، فقد وقعت سابقا أحداث مشابهة سنة 2012، وما زال التحقيق القضائي جاريا بشأنها. وكان الجيش التونسي فيها متهما، ولا يدري الناس مآل تلك اللجان التي أحدثت للتحقيق والقضايا التي لم يبت فيها بعد القضاء، وسقط بعد ذلك مئات الضحايا في أحداث غرق جماعي، ناجمة عن حالة المراكب المستعملة، وجلها مراكب قديمة، تتم سرقتها أو شراؤها بطرق ملتوية.

وما زالت قضية المفقودين حاضرة، ولم تفصح اللجان التي تشكلت أيضا عن مصيرهم، ما جعل بعضهم يقدم رواية غريبة عن مصير هؤلاء، منها الاتجار بهم، وبيعهم إلى الشبكات والتنظيمات الإرهابية أو التجارة في الممنوعات، وتحديدا المخدرات.

ظهرت الهجرة السرية (الحرقة) في تونس خلال تسعينيات القرن الماضي، مع موجتها من بلدان شمال أفريقيا، في ارتباط وثيق بفرض إيطاليا وإسبانيا التأشيرة على مواطني دول المغرب العربي، بحكم انتمائهما المستجد إلى فضاء شنغن.

 

ولكن نسق تدفقها ظل غير قار، يختلف في وتيرته من سياق إلى آخر، بحكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وضغوط الدول الأجنبية وسياساتها بشأن الهجرة، فضلا عن معطى الاستقرار السياسي الإقليمي، ونشوء الاضطرابات والحروب الأهلية والكوارث.

وقد كانت الانتفاضات والثورات التي اندلعت منذ سبع سنوات منعطفا حاسما في تشكل معطى جديد في مسألة الهجرة، سمته تزايدها في ظل انفلات أمني وانهيار منظومة الحدود سنوات، والعجز عن حل مشكلات البطالة والتفاوت الجهوي والطبقي، في مقابل تشدد المقاربات المتبنّاة في دول أوروبا الغربية تحديدا. ويجد المهاجرون أنفسهم أمام فخ المغامرة القاتلة أو الموت البطيء في أوطانهم، كما يردّد دوما هؤلاء الشبان. وتلك مأساة الحرقة، وقد أدى ذلك إلى تحول البحر المتوسط مقبرة مائية عائمة، يدفن فيها سنويا آلاف الشباب.

عشنا فأل الثورة بكثير من الوهم، وخلنا أن صور المهاجرين الذين يغرقون في البحر، والتي كنا نعتبرها وصمة عار في جبين النظام، لن تعود. ولكن ها هي تقتحمنا بأشد قسوة. لم توقف الثورات العربية تلك الموجات بل أججتها. ها هي الثورات تطرد شبابها، وتلقي بهم في البحر. لقد وعدت الشباب بالعمل والعدالة والحرية والكرامة. ولكن وبعد سبع سنوات من المنجز الثوري الهزيل، تستيقظ الرغبات الدفينة التي ظلت تتوثب وتحفز الشباب على الهروب.

تراكمت الخيبات بعد الثورة التي عصفت بأحلام الشباب وانتظاراتهم الشاسعة. وهذا ما راكم خزان المهاجرين بالقوة. صور المهاجرين حلت مباشرة بعد أيام من اندلاع الثورة محل صور جموع كانت ترفع شعارات الثورة وتهتف بالنشيد الوطني. توحي صور بالسخط على الحكام، وعلى النخب التي تدفعهم إلى هذه المغامرة القاتلة.

كاتب التدوينة: المهدي مبروك

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version