قِراءة أحاديث المُحبّين وأهازيج العُشّاق في هوى المُحِب هي الأكثر رواجًا لكن لم أجد غيرها أسرع كسادًا إن لم يكُن ذاك الحُب من سويداء العليل بالعشق.
لَكن لكلٍ فيما يعشق مذهب، فمن الممكن أن يكون المذهب في حُب الإخوة، وحب الأصدقاء، وحب الآباء وحب العاشقين وأعظم الحب، حب الله ورسوله؛ وهنا تتعاظم فكرة السعي لهذا الحب، وتحديد السبيل الذي يودّ المغرم سلوكه!
لنُبسط الأمر؛ أصل الحب في المعنى اختلف فيه المتذوقون له فبين لوعة الاشتياق، ونار الغير، وعُسر الوصال، وعقبات الطريق لَكن الجميع اتفق على لذة القرب وحلو مذاقها.
ويُقال على من هَام حُبًا لله ورُسله “متصوف”؛ يزهد الناس والحياة ويهيم بالذكر، والدعاء كأن ضريبة المحب في الطريق للموصول بيع للهوى وشراء للنور في الدار الأخرى.
كل ما فات مقدمة لا أعلم هل استطالت، أم أنها كافية لكن ما أدركته هو أن الحب لا يحتاج لفصال ولا مماطلة لا يحتاج إلى عناء أو أنه يحتاج أحيانًا فلكل بُردته إذا “أحب” هذا ما أيقنته حين قرأت بُردة الإمام البوصيري رحمة الله عليه.
فما أبلغ أن ترى العاشق يكتب لمعشوقه بروحه لا بقلمه لا شيء أحق بحركة الفؤاد من مكانه.
أيَحْسَبُ الصَّبُّ أَنَّ الحُبَّ مُنْكَتِم
مَا بَيْنَ مُنْسَجِمٍ مِنْهُ وَمُضْطَرِم
لَوْلاَ الهَوَى لَمْ تَرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلِ
لاَ أَرِقْتَ لِذِكْرِ البَانِ وَالْعَلَمِ
فَكَيْفَ تُنْكِرُ حُبًّا بَعْدَمَا شَهِدَتْ
بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسِّقَمِ
وَأَثْبَتَ الوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وَضَنىً
مِثْلَ البَهَارِ عَلَى خَدَّيْكَ وَالعَنَمِ
نَعَمْ سَرَى طَيْفُ مَنْ أَهْوَى فَأَرَّقَنِي
وَالحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذَّاتَ بِالأَلَم
يَا لاَئِمِي فِي الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَةً
مِنِّي إِلَيْكَ وَلَوْ أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ
عَدَتْكَ حَالِي لاَ سِرِّي بِمُسْتَتِرٍ
عَنِ الْوِشَاةِ وَلاَ دَائِي بِمُنْحَسِمِ
مَحَّضْتَنِي النُصْحَ لَكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ
إَنَّ المُحِبَّ عَنْ العُذَّالِ فِي صَمَمِ
إَنِّي اتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَليِ
وَالشَّيْبُ أَبْعَدُ فِي نُصْحِ عَنِ التُّهَمِ
وهذا جزء صغير من البُردة، وإن كانت هي لوحة كاملة مرسوم بداخل كل مغرم ربما لا يجوز اقتصاص جزء منها، فالحب داء العليل ويكمن استعذابه أنه بعد لم يستنتج الطبيب بعد.
ومما قاله الإمام البوصيري عن بردته: “كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها ما اقترحه عليّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق بعد ذلك أن داهمني الفالج الريح الأحمر، (الشلل النصفي) فأبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء فقال لي: (أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت:
(أي قصائدي؟) فقال: (التي أنشأتها في مرضك)، وذكر أولها وقال: (والله إني سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة)، فأعطيته إياها. وذكر الفقير ذلك وشاعت الرؤيا”.
وبعيدًا عن من لم يستعذبوها من الأئمة والشيوخ ومنهم من أقرّ بتحريمها إلا أنك لن ترَ مُحبَأ إلا وقد رُسم حاله بأصدق من تلك الأوصاف حتى وإن كانت ليس إلا أهازيج “متصوفة “.
ولتكُن بُردة أمير الشعراء “أحمد شوقي” أمامك فتسمع أبياته:
فاضتْ يـداه مـن التسـنيم بالسَّـنِمِ
وظلَّلَتــه، فصــارت تسـتظلُّ بـه
غمامــةٌ جذَبَتْهــا خِــيرةُ الــديَم
محبــةٌ لرســولِ اللــهِ أُشــرِبَها
قعـائدُ الدَّيْـرِ، والرُّهبـانُ فـي القِمـمِ
إِنّ الشــمائلَ إِن رَقَّــتْ يكـاد بهـا
يُغْـرَى الجَمـادُ، ويُغْـرَى كلُّ ذي نَسَم
ونـودِيَ: اقـرأْ. تعـالى اللـهُ قائلُهـا
لـم تتصـلْ قبـل مَـن قيلـتْ له بفم
هنــاك أَذَّنَ للرحــمنِ، فــامتلأَت
أَســماعُ مكَّــةَ مِـن قُدسـيّة النَّغـمِ
برغم أن الأمر كان مجرد معارضة شعرية والقصد هو إظهار البراعة في الصور الجمالية والمحسنات البديعية؛ إنك تجد أن شوقي رحمة الله عليه استطاع أن يرسم حبه بروح ذات معان مختلفة .
ولن ننسَ بردة تميم وتعتبر “بردة العصر الحديث”:
ما ليْ أَحِنُّ لِمَنْ لَمْ أَلْقَهُمْ أَبَدَا
وَيَمْلِكُونَ عَلَيَّ الرُّوحَ والجَسَدَا
إني لأعرِفُهُم مِنْ قَبْلِ رؤيتهم
والماءُ يَعرِفُهُ الظَامِي وَمَا وَرَدَا
وَسُنَّةُ اللهِ في الأحبَابِ أَنَّ لَهُم
وَجْهَاً يَزِيدُ وُضُوحَاً كُلَّمَا اْبْتَعَدَا
كَأَنَّهُمْ وَعَدُونِي فِي الهَوَى صِلَةً
وَالحُرُّ حَتِّى إذا ما لم يَعِدْ وَعَدَا
وَقَدْ رَضِيتُ بِهِمْ لَوْ يَسْفِكُونَ دَمِي
لكن أَعُوذُ بِهِمْ أَنْ يَسْفِكُوهُ سُدَى
يَفْنَى الفَتَى في حَبِيبٍ لَو دَنَا وَنَأَى
فَكَيْفَ إنْ كَانَ يَنْأَى قَبْلَ أن يَفِدَا
بل بُعْدُهُ قُرْبُهُ لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا
أزْدَادُ شَوْقاً إليهِ غَابَ أَوْ شَهِدَا
وهنا أيضًا القصد المعارضة، لكن هل سألت ذاتك إذ رأت بردةً مُجسدة أمامك؟
نعم كما سبق وذكرت أن لكل محب بردته فيمن يحب، في دُعاء الأم سَحرًا لك، في ابتسامة ذاك العجوز الغريب لك صباحًا وأنت متأخر على العمل، في الصبر على ما لا يصبر عليه إلا المؤمنين الحق، في نظرات لقاء المحبين بعد لوعة الفراق، كل شيء حولك ستعرف أن لكل مغرم بردة في غرامه لكن لا تدركه إلا إذا هِمت أنت أيضًا على وجهك.