تأليه البشر وتقديسهم.. أولى خطوات التخلّف والانهيار

“عاش القائد الخالد”.. “إلى الأبد أيها الأسد”.. “سوريا الأسد”.. “القائد المفدّى”..، وغيرها من الشعارات التي تربى عليها أجيالاً من أبناء سوريا، ومثلها في مصر وتونس، ولا ننس “الملك المبجّل” و”جلالته” و”سمو الأمير” و”معالي الوزير” في دول الخليج، حيثُ سعت الأنظمة القمعية فجر استقلال الدول العربية إلى ترسيخ فكرة “الزعيم الأوحد” في خيال الشعوب التي لازالت ترزح تحت وطأة الجهل والتخلّف وتركة “استعمارية” ثقيلة.

يعتبر تقديس الأشخاص مصنعًا لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلّف وتعطيل مسيرة الحياة الطبيعية، وإن أي مجتمع لم يبتليه الله بمرض تقديس الأشخاص كما ابتلى المجتمع العربي، فما أن يبزغ شخص في المجتمع في مجال الفكر أو السياسة، حتى يبادر مجموعة من الجهلة بطبيعة الإنسان، إلى وضع هالة من القدسية حوله، تجعل نقده بقول أو فعل من موبقات الإثم التي قد تدفع بمعجبيه إلى خوض حرب ضروس إن لم تكن باليد فبالسان وإن لم تكن كذلك فبالقلم، ضد أي شخص آخر يحاول نقد هذا العالم أو المفكر وتصحيح بعض أخطاء ما يقول أو يكتب، ولعلاج هذه المشكلة لا بد من الاعتراف بوجود فرق واضح بين النقد البناء الذي يبرز الإيجابيات ويشيد بها، ويعالج السلبيات ويصححها بأسلوب يبتعد عن التجريح وتناول ذات الشخص الذي نريد نقد بعض أفكاره.

تركيا.. نموذجاً عن الدول المتحضرة، والشعب الواعي، وقعت بعض بلديات حزب العدالة والتنمية في مستنقع نصب التماثيل لشخصية القائد أردوغان، ولكن لم تنتهي هنا، سرعان ما رد أردوغان بتصريحات هي الأولى في العصر الحديث، حيث قال:

“أُعرب عن أسفي لنصب تمثالي من قِبل بعض بلديات حزبنا، وأؤكد أنّ مثل هذه التصرفات تتنافى مع القيم التي نؤمن بها، فأنا لا أريد تماثيل؛ بل أدعوكم لبذل المزيد من الجهود لخدمة المواطنين”.

وإن دل هذا على شيء، فهو يدل على خطورة تقديس الأشخاص، بالانشغال عن الفكرة التي وجد شخص أردوغان لها، وهي بناء تركيا وتطويرها.

تقديس الأشخاص مرض نفسي

يحتاج هذا المرض علاجًا واقعيًا وفهمًا صحيحًا بعيدًا عن التعصب، فمن خطورة هذا المرض أنه يحكم على الشخص بالتخلّف الأبدي والعيش في بوتقة التبعية والوعي القطيعي، وهو الذي حكم طويلًا على هذه الأمة بالتخلف عن ركب الحضارة.

تحتاج المجتمعات العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الابتعاد عن تقديس الأشخاص الذي يعتبر مصنعاً لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلف وتعطيل مسيرة الحياة

وعلى ضوء ما سبق لا بد لنا ولابد للمربين والمعلمين وصانعي الأجيال بشكل خاص، أن يفهموا – بشكل عقلاني بعيداً عن الانفعال – أن تقديس الأشخاص مرض نفسي يحتاج علاجاً واقعياً وفهماً صحيحاً للأشياء بعيداً عن التعصّب، فبعض العقليات السائدة والرائجة هذه الأيام تحاول تصوير نقد العلماء ورجال الفكر والسياسة على أنه خيانة عظمى في حق هذا العالم أو ذلك المفكر، وأصحاب هذا التعصب الأعمى لا يدركون أن النقد الهادف والبناء أداة تساعد على تصحيح أخطاء المنتقَد إن كانت له أخطاء، وهذا لا يغض من مقامه أصلاً، وقد آن الأوان أن يفهم الجميع، خصوصاً نحن الشباب أن لا أحد فوق النقد مهما كان، فبميزان النقد يمكن تقويم الخلل والخطأ.

وقد قرأتُ تغريدة على تويتر للشيخ صالح المغامسي يقول فيها:

“الأمة أحوج ما تكون لإعادة النظر في قراءة تراثها، فكما ننهى عن تقديس الذوات، لابد من النهي عن تقديس أقوال الرجال.”

وقد دعا الدكتور سلمان العودة في تغريدة له على تويتر إلى الكف عن تقديس البشر والتعامل معهم بمعصومية عدا الأنبياء، وفي مقولة قرأتُها للمفكر مالك بن نبي يقول: الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكاراً، بل ينصّب أصناماً.

يقول الكاتب والمفكر السعودي إبراهيم البليهي في “حصون التخلف”:

“إن تعظيم فرد من أفراد الأمة وحصر الحقيقة فيما يقول أو يكتب من أسباب تخلف الأمة وواحد من الطرق المؤدية إلى السقوط، لأن أصالة النقص البشري أرسخ من احتكار المعرفة المطلقة التي تنتج عن تقديس الأشخاص مهما كانت مستوياتهم العلمية والفكرية، وإذا بالغت أية أمة في تعظيم فرد واحد من سالف علمائها أو حصرت فهم الحقيقة ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميز أو الشهرة من أبنائها وتوقفت بمعارفها عند انجازات أولئك الأفذاذ فإنها بذلك تعلن أنها تجهل أصالة النقص البشري الملازم حتى للعظماء المبدعين كما تجهل أن لكل جيل نصيبه من العظمة والإبداع وأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية تنمو باستمرار”.

ويذهب الكاتب أبعد من ذلك مشخصاً أسباب متلازمة تقديس الأشخاص وكيف أنها تتسبب في تأليه الفرد ووضعه في مكانة تخرجه عن الطبيعة البشرية وتضفي عليه هالة من التأليه، مؤكداً أن نتيجة هذه المتلازمة هي الجهل والجور والتخلف فيقول:

”إن بين الجهل والجور والتخلف تلازماً عضوياً، فهو ثالوث مترابط يخنق عقل المجتمع ويلغي فردية الإنسان ويوقف حركة التاريخ ويعطل مسيرة الحضارة فمع استمرار جهل المجتمع بما له وما عليه يحصل الجور ومع الجور تسوء الأخلاق وتتدهور الضمائر ويتفاقم الجهل، وباجتماع الجهل والجور وسوء الأخلاق وفساد الضمائر تسود الأنانية الشرسة ويتوطد التخلف، وباستحكام هذه الشبكة من الآفات والمعوقات وتبادل التغذية بين أطرافها تتوالد عناصر الانحطاط وتترسّخ أركان الإفلاس الحضاري فتنسد الآفاق وتنغلق العقول ويشتد التعصب ويسود الاجترار ويختفي الإبداع ويتوجّس الناس من أي طارئ في الأفكار والأذواق والممارسات ويحتمون بما ألفوه ويبالغون في تعظيم الأشخاص الثقات وينقلب التقدير إلى تقديس وبذلك يستحكم الانغلاق ويتوقف النمو وتبدأ مرحلة الجفاف والتيبّس، والمبالغة في تعظيم المتميزين من الأشخاص هي أغزر منابع الجهل والظلم والتخلف.

طريقي الانحراف

هناك نوعان من الانحرافات التي أخذت مكانها منذ مطلع التاريخ البشري علي الأرض، منها ما كان الانحراف السلوكي، والتصرفات، وهو الأهون والأسهل معالجته، ومنها الانحراف التصوري العقدي والفكري والفلسفي وهو الأخطر إلى هذا اليوم، فقد ابتليت البشرية من هذا النوع، بعد أن سولت لأنفس قوم لوط أن قدّسوا ووضعوا هالات لبعض الصالحين، وتبعا لسياسة خطوة خطوة “الإبليسية” صنعوا لهم صوراً، ثم في جيل آخر نحتوا صورهم وأدخلوها في معابدهم، “وتنادوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا”، فكانت بداية الانحراف العقدي والفكري والسلوكي لتثمر في يومنا هذا.

نشهد اليوم خطورة تقديس الزعامات والقادة والأشخاص، ولستُ ضد إنزال الناس منازلهم، وإني أؤيد حب الزعماء المخلصين الصادقين، الذين يخدمون أوطانهم وشعوبهم، وهذا شيء رائع، بل خير أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم، والعكس شرارهم الذين تبغضونهم ويبغضوكم.

الأخطر في هذا هالة التقديس، فقد اختلط في ذهن الفاروق عمر بن الخطاب عندما سمع بوفاة سيد البشر الرحمة للعالمين وصال وجال منفعلاً، حتى وفق الله الصديق أبي بكر رضي الله عنه فقال:

“من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.”

من كان يعبد القائد الخالد أو الزعيم المفدى أو النبي المعصوم أو الرجل الصالح أو سيادة الرئيس أو جلالة الملك فهو سيموت حتماً، ومن كان يعبد رب هؤلاء ويحيا لأجل ربهم ويعيش لتقديس فكرة لا تقديس صاحبها فهو المنتصر حتماً.

ولو انطلق المقدّسون للأشخاص اليوم من القاعدة التي انطلق منها جهابذة الأمم والمجتمعات قديماً وفهموا معاني الكلمات الخالدة للإمام مالك والشافعي رحمهما الله لابتعدوا عن تقديس الأشخاص، فالإمام مالك قال: ”ما وافق مذهبي من الكتاب والسنة فخذوا به وما لا فاضربوا به عرض الحائط، وقال: كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم”، كما أن الإمام الشافعي أصل لقاعدة تمنع تقديس الأشخاص وذلك بقول: ”رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version