تجار السلطان. حكاية قرون من زواج المال بالسلطة في المغرب

ما اجتمع المال بالسلطة إلا وكان الشيطان ثالثهما. هي قاعدة و-شبه حتمية- رياضية تحكم وتتحكم في منطق إدارة معظم دول العالم. لكن الفارق الوحيد بين دول وأخرى هو أن “الشيطان يعمل وفق ضوابط وقوانين تؤطر عمله في الدول التي تدار بشكل سليم، بينما هنا فهو الآمر الناهي والكل في الكل في دولة السيبة كحالتنا في هذا البلد السعيد.

ففي رصد تاريخي موجز ومبسط لعلاقة أرباب المال بالسلطة السياسية بالمغرب سنجد أنها ليست وليدة اليوم فقط، بل منذ تأسيس الدولة المغربية والحالة دائما موجودة، اختلف فقط المضمون والسياق، إذ دائما ما كان هناك ما يشبه علاقة “زواج متعة” بين كبار التجار والملاك وبين نظام الحكم المتمثل في السلطة المخزنية بالمغرب.

صحيح أن ظاهرة العائلات الكبرى المالكة لكبريات الشركات والمجموعات الاقتصادية في البلد ليست في حد ذاتها خصوصية مغربية. لكن ما يميز هذه المنظومة في المغرب هو كون هيمنة العائلة والنسب كثقافة معمول بها ومسلم بها يعد من بديهيات ممارسة الحكم وإدارة الدولة.

حيث كان لاقتصار المخزن المغربي لفترة طويلة على تنظيم إداري بدائي لم يشمل التطور به مضمونه وعمقه الداخلي، أن جعل من العائلات الكبرى مؤسسات حقيقية للسلطة وأصبحت “الهبة” و”الحظوة” السلطانية والتوريث داخل المجموعة العائلية يحل محل ممارسة التكوين والاستحقاق والتنافس الحر وفق قواعد وقوانين تسري على الجميع.

فثراء وتغول الكثير من العائلات اليوم تحقق بالأساس بفضل نظام الهبات و العطايا نظير الولاء للسلطة ولنظام الحكم، وهو نظام كان دائما من أسس وملازمات تدبير الحكم وإدارة الدولة والرعايا في البلد.

فالظاهرة ليست وليدة الفترة الراهنة إذا بقدر ما تعود بنا إلى البدايات الأولى لتشكل الدولة في المغرب أي منذ عصر الأدارسة، (وحتى مع بعض الإمارات التي حكمت مناطق من المغرب لكن كانت في شكل قبلي بدل العائلة الصغيرة)، حيث كانت تعد بمثابة آلية من السلطة لضمان الولاء والدعم وتشكيل شبكة ودرع من الحماية ضد أي تمرد ضد نظام الحكم.

لكن المرحلة المفصلية لهذه الفئة هي القرن التاسع عشر وذلك عندما تحولت مدينة فاس من مركز ديني ثقافي اكتفى فيه “فّاسة” خاصة الشرفاء منهم، بالاعتماد على مزاولة الحرف واستغلال وظائفهم الدينية، إلى عاصمة تجارية تشهد ازدهارا ماليا كبيرا، حيث اتسع نفوذ وحجم تأثير هذه العائلات داخل المنظومة، و أصبح عدد من التجار القريبين من السلطة والذين يستفيدون وتجمعهم علاقة “حظوة” بها، ينعتون بــ«تجار السلطان»، فظهرت بذلك عائلات جديدة من التجار من هذا الصنف أمثال “بنجلون”، “بن سليمان”، “بناني”، “ينكيران”، “بنزاكين”، “أل الفاسي الفهري”، “القباج”.. وغيرهم.

ما ميز هذا النوع من العائلات هي أنها ترتبط ببناء شبكة من الارتباطات، حيث يتم نسج أنماط مختلفة من الروابط والعلاقات مع عائلات متحالفة قصد الاستفادة والاستغلال الأمثل لإمكانية الوجاهة والسلطة: علاقات زواج ومصاهرة، علاقات صحبة وعلاقات زبونية، ومن المفيد للتاجر أن يرتبط بعالم فقيه أو شريف والعكس صحيح. إنه تبادل امتيازات، فالوجاهة الدينية تتحول إلى ثروة وغنى مادي والثروة المادية تحصل على شرعية رمزية مضافة.

هذا الأمر أدى بعد ذلك لتشكل حلف أوليغارشي مكون من شبكة من العائلات الفاسية بالخصوص والتي أقامت تحالفا غير معلن مع المخزن، الأخير الذي جعلهم يشكلون طبقة واحدة تتحكم في السياسة والاقتصاد، خاصة وأن خلال هذه الفترة بالذات تمكنت طبقة التجار من إزاحة الارستقراطية الدينية من صناعة القرار السياسي والتأثير في قرارات السلطان، ليحل بذلك لأول مرة في تاريخ المغرب منطق المال والسوق بدلا عن منطق الفتوى والحلال والحرام.

لكن كان أخطر ما في هذه العملية أن المخزن لم يتمكن منذ ذلك التاريخ من ضبط والتحكم في ذلك التغول لهذه الفئة، بل الأكثر من ذلك أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا لسلطته ونظام حكمه، بعدما كان مفترضا أن تكون حامية له.

إذ أن هذه الأوليغارشية سرعان ما خرجت من جبة وطوع المخزن لتجد ضالتها في الحماية الأجنبية عبر ما سمي ب “الحماية القنصلية” وهي آلية كانت اتخذتها العديد من النخب باستمالة وتشجيع من الدول الاستعمارية وذلك بما يجعلها غير خاضعة لقانون الدولة المغربية أو لحكم السلطان داخلها.

وقد شكل ذلك أكبر الضربات التي أدت بتعجيل تفكك وإضعاف الدولة ما أدى لخضوع البلد للحماية الفرنسية كنتيجة لذلك، ذلك أن انتهازية وبرغماتية نخبة كبار التجار جعلهم يفضلون الآخر الأجنبي على الدولة مادام ذلك يعني الحفاظ على مصالحهم ومكاسبهم التجارية.

العاهل المغربي وخلفه الملياردير المغربي عزيز أخنوش الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار

لكن على الجانب الآخر لابد من الإشارة أن بعض العائلات التي لم تحظى بالحماية الأجنبية تلك والتي كانت لها مواقف مناوئة من السلطان فقد تعرضت لعملية “التتريك” وانتزاع كل أملاكها وتوقيف أعمالها مع تعريض أصحابها للنفي أو السجن كمثال عائلة “الجامعي” و”اباحماد” و”الكتاني” وغيرهم..

دخول فرنسا لم يغير الأمر كثيرا، بل بالعكس من ذلك سرعان من انبرى العديد من رجال التجارة للارتماء في الحضن الفرنسي، إذ أن شخصيات تجارية كبيرة ساعدت في تمكين فرنسا من الاستغلال الاقتصادي للبلد مقابل الإبقاء على ما تبقى من مصالح تلك الفئة، غير أن المستجد هو دخول بعض الأسماء ذات الأصل الجغرافي الجديد على الخط، خاصة من سوس ومنطقة الشرق.. حيث بدأت تظهر شيئا فشيء بوادر نخبة اقتصادية جديدة.

إذ كان للهجرات التي أحدثها الاستعمار داخل البنيات الاقتصادية والاجتماعية المغربية جعلت النخبة السوسية تكتسي طابعا متميزا وتتحرك وفق منطق خاص يقوم بالأساس على تنقل اقتصادي وبشري منظم، ويعتبر كل من نموذج “أخنوش” و”الشعبي ” و”الصويري” وغيرهم..، أمثلة حية لوصول النخبة المنحدرة من هذه المنطقة إلى مصافي العائلات المخزنية الكبرى بالمغرب.

وقد ساعدت ظروف الحرب على إحداث نقلة نوعية للسوسيين. من التجارات الصغيرة إلى تجارة الجملة خاصة بعد أن غادر اليهود المغرب وخلفوهم على رأس تجارة الجملة.

لكن جشع الرأسماليين الفرنسيين وسنهم قوانين تحد من تحرك التجار والاقتصاديين المغاربة دفع بهم إلى الارتماء مرة أخرى إلى جانب المقاومة والحركة الوطنية وذلك أملا للدفاع على ما تبقى أيضا من مصالحها التجارية، وتبقى السمة الأبرز خلال هذه المرحلة هي دخول الرأسمال السوسي على الخط بقوة، وفي منافسة شرسة للتجار الفاسيين.

وكان ولوج النخبة السوسية لعالم السياسة خلال فترة الحماية وفترة ما بعد الاستقلال أحد أكبر المنافذ للوصول إلى القمة حيث لم تكن الثروة وحدها كافية للدفاع عن مصالح هذه الفئة دون وجود سند كاف ضامن وداعم لاستمراريتها، وهذا السند لم يكن سوى الانخراط في العمل السياسي وقد كان حزب الاستقلال هو البداية الفعلية لذلك، حيث كان الحاج أحمد التفراوتي الذي سيعرف بعد ذلك بـ “أخنوش” من أبرز الأسماء السوسية التي ستكون لها بصمة قوية ومؤثرة في المجال السياسي خلال تلك الفترة.

الملياردير المغربي عزيز أخنوش بثروة تزيد عن 2 مليار دولار.

وبما أن مرحلة الاستقلال كانت مرحلة انتقالية ولحظة مفصلية، فقد كانت تتطلب جهودا ضخمة لإعادة بناء الدولة، وهو الأمر الذي شكل فرصة سانحة لكبار التجار للمساهمة والاستثمار أملا في استغلال الفرصة ما أمكن، خاصة وأن القلاقل التي ميزت المرحلة وتزايد الدعاوي من اليسار بالخصوص بتقييد حركة الرأسمال الأجنبي وتأميم المشاريع الحيوية في البلد فذلك مكن عديد من العائلات الثرية من السيطرة واستغلال الكثير من المشاريع التي كانت مملوكة من قبل للمعمرين الفرنسيين، مستفيدين بذلك من القوانين والمشاريع الحكومية الجديدة المشجعة على ذلك كقانون “المغربة” مثلا…

لكن بقي السؤال الأبرز هو:

كيف تمكن التركيب العائلي للمخزن من اجتياز مرحلة الحماية والإبقاء على نفس بنيته دون أن يطلها تغيير جذري يذكر؟

يمكن القول هنا أن السلطة السياسية بالمغرب وجدت نفسها أمام نخبة سياسية واقتصادية مشحونة ومتحمسة للنمط السياسي الجديد، غير أن ذلك الحماس قابله تحفظ وتوجس من الجالس على العرش من هذه النخبة وما يمكن أن تشكله من تهديد لسلطته، خاصة وان الكثير من رجال المال كانت لهم توجهات اديولوجية مختلفة عن التوجه الرسمي، وهو ما يعني تلقائيا بحث كل طرف عن ما يضمن به مصالحه.

وبما أن للقصر منطقه الخاص في إدارة الدولة دون إبداء كثير الود أو الاطمئنان لمن يسعى لمشاركته في ذلك، فكان أحد التكتيكات التي سعى لتوظيفها لإحداث نوع من التوازن مع النخبة الاقتصادية الفاسية التي لم يعد الكثير منها لا يشاركه نفس التصورات مائة بالمائة، فكان أن قام بتقوية العناصر ذات الأصول الجغرافية المختلفة خاصة من سوس ك”عبد الله الصويري” وعابد السوسي” وفي وقت لاحق “الحاج أحمد أخنوش” وبن الصالح والشعبي، حيث انسحب البعض ممن كانوا منتمين سياسيا من حزب الاستقلال، والتحقوا بحزب اكديرة كالصويري والسوسي، وكل ذلك لإحداث نوع من التوازن الاقتصادي بالنسبة للسلطة، وكذلك للتخلص من هيمنة منافسيهم السياسية واحتجاجا عن هيمنتهم الاقتصادية والامتيازات الاقتصادية التي يتمتعون بها.

وبذلك يبدو لنا أن جزءا من المنظومة تم الحفاظ عليه في الحدود التي رسمتها السلطات الاستعمارية. في ما بعد ومع ميزان القوى الجديد الذي جاء بعد الاستقلال، عرفت الملكية كيف تعيد تشكيل شبكتها من العائلات الكبرى بأشكال جديدة ونخب جديدة، بما فيها من بين العائلات التي شاركت بنشاط في الحركة الوطنية إلى درجة أن التركيبة العائلية واصلت تجسيد الفجوة القائمة بين دولة القبيلة ودولة المؤسسات.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version