تصاريف القدر وتقلباته

لم يكن لقاؤنا الأول قائما على عشاء فاخر أو على ضوء الشموع في مكان باهر أو حتى تحت ضوء القمر على شاطئ البحر.. لم أصطدم به في الشارع، ولم يحدث أن أوقع مني أشيائي فوق الأرض لينحني معي بغية مساعدته لي على جمع ما أوقعه من يداي معتذرا مني على ما اقترفه سهوا…

لم يكن لقاؤنا أسطوريا ولا حتى من وحي الخيال، بل التقينا على طاولة مستديرة مكونة من خمسة عشر شخصا، رجالا وإناثا، نناقش عليها أفكارا مختلفة، متناقضة، لا فكرة تشبه آخرى ولا عقل يشبه آخر، ومعظم الأراء تعارض الآخرى، إلا أننا نتقبلها ونحترمها بعقل ناضج وصدر رحب..، وكان لقائي به هو شخصيا رائعا ومرعبا مبنيا على شعار “اتفقنا ألا نتفق”.

في كل مرة كنت ألتقي فيها أنا وأصدقاء العلم والمعرفة وبعد نقاشات تطول بيننا وقبل أن يذهب كل في حال سبيله نقترح على بعضنا كتابا معينا نقوم بقراءته جميعنا من أجل مناقشته في المرة المقبلة، وحينما يحين ذاك اليوم أجده دائما هو أول الحاضرين في أي مكان نتفق على الجلوس فيه، سواء في المقهى أو في المكتبة أو في الحديقة أو في أي مكان آخر و لم يحدث أن تغيب يوما أو أخلف بموعده معنا، هو الذي التحق بنا متأخرا ولم يؤسس للفكرة معنا كان أكثر الأشخاص حماسا، شغفا وحيوية، رأيت في عينيه شعلة من الأمل يصعُب إطفاؤها وحب الحياة بطريقة ما كنتُ أستوعبها، كان مختلفا، مختلفا للحد الذي أخذته على محمل الإستثناء والأبدية.

تكررت لقاءاتي معه ومع المجموعة بكاملها، اختلفنا كثيرا، لم نتفق على أي شيء بدءا من الكُتَاب إلى الكُتب ومضامينها وأحداثها وشخوصها وكل ما يدخل في هذا الإطار.. لم أكن من محبي الكتب العلمية والخيالية ولم تكن لدي دراية كافية فيما يخص الكتب الدينية ولكنني كنت مجبرة على قراءة كل أصناف الكتب بمختلف أنواعها لأن فكرة المجموعة تأسست على هذا منذ البداية..، فكنت أعبر عن أرائي باقتضاب شديد وبهدوء تام، دون أن أدخل في صراعات مع أحد..

أما هو فكان في كل لقاء يذهلني، عقله موسوعة، ملم بشتى المواضيع، أينما وضعته يتكلم وعن أي سؤال يجيب، كل المجالات اختصاصه، يتحدث عن الفيزياء والكيمياء، عن الرياضيات وعلوم الحياة الأرض، عن القرآن والسنة، عن الفلسفة والأدب، عن الشعر والنقد، عن الحب والكره… يتحدث في كل شيء بطلاقة وجرأة وبراعة…

كنت أقول كلما سمعته يتحدث ” تبارك الرحمان فيما خلق”، أعْجِبْتُ به، وكل الأسباب كانت تدفعني لأكون معجبة به بالرغم من أن أفكاره غالبا ما أجدها تناقضني، كانت أفكاره تروق لي وأحب الإستماع إليها حتى ولو كانت تصب في وَادٍ بعيد كل البعد عن الواد الخاص بي، ولعل اختلافنا هو جوهر كل تجاذب حصل بيننا، الإختلاف الذي يرفضه عامة الناس كان في صفنا وقلص المسافات بيننا، خَدَمَ حبنا أكثر مما كنتُ أتوقع في علاقة مع رجل فَعل بي ما لم أتوقع.

يوماً عن يوم، لقاءاً بعد لقاء، نقاشاً بعد نقاش، نظرة تليها رجفة، وبعد أن تدفقت الأحاسيس وهاجت المشاعر، وبعد شهرين من الصراع الداخلي وبعد محاولات فاشلة من الرفض صرنا نلتقي أنا وهو – لا أحد من تلك المجموعة معنا- فقط أنا وهو، لقاءاتنا لم تكن خالية من الهدف الرئيسي الذي التقينا عليه أول مرة، كان حبنا في كفة ونقاشاتنا عن الكتب في كفة آخرى، صحيح أننا كنا مختلفين في أفكارنا ولكننا اتفقنا أن نجعل من اختلافنا نقطة نعود إليها فنتفق على الإختلاف في حد ذاته.

لم نربط جدلنا الفكري بعواطفنا اتجاه بعضنا البعض، أقر أنه في بعض الأحيان استفزني كثيرا ولكنه علمني كيف أفصل غضبي منه فيما يخص أفكاره الموازية لأفكاري عن شخصه هو كحبيب. لا أنكر لقد تعلمت منه الكثير، كان بحرا من العلم والمعرفة ولم أكن أمامه سوى نقطة في بحر شاسع وعميق. تعلمتُ على يديه أساليب التعامل مع الغير، كأن أترك عصبيتي في مكان وأتكلم بالمنطق الذي يخلو من الذاتية، أن أتحاور مع الآخرين بهدوء و أن أتقبل جميع الأراء بروح رياضية…

علمني على يديه ألا أجعل من اختلافنا سببا يفرقنا، أن أعود إليه كلما انزعجت منه، أن أحكي بدل أن أكتم في قلبي ما قد يتفاقم بداخلي فيؤذيني، علمني كيف يتحكم المرء في أعصابه بدل أن يتهور، علمني الكثير وما هذا إلا القليل.

أحببته.. لا بل همتُ به وما وجدت وصفا أعلى شأنا من الهيام.. ولكنه لم يكن مختلفا كما ظننت، ولم يمنع نفسه من أذيتي، فبعد حب دام لتسعة أشهر تركني في منتصف الطريق، طريق كان بالنسبة لي المنتصف، وكان بالنسبة له النهاية..

ظلمته بسوء الظن، فيوم تخلى عني بقلبه البارد أهنته كثيرا، ونعته بأسوء النعوت لا لشيء سوى لاحتراق قلبي حينها. أن تعيش حباً لم تحسب حساباً لأن تعيشه، أن يأتي هكذا على غفلة منك وبدل أن ترفضه تفتح له ذراعيك ليلتصق بقلبك ويسكن في جوفك، أن تُحِب بكل جوارحك وتعيش فترة من سعادة لا حدود لسقفها وبعدها ينتهي كل شيء كما بدأ، هكذا فجأة وعلى غفلة، دون إذن أو مبررات، هكذا يرحل كما دخل، ويختفي كما ظهر، تاركا خلفه قلبا يسقط كبناية شاهقة تعرضت لهزة أطاحت بها، دمرتها، أخفت علوها وجعلتها متساوية مع الأرض هكذا شعرت حينما نظر في عيني بجرأته المعتادة والتي فسرتها حينها على أنها حقارة، يوم غرز الخنجر في قلبي قائلا:

“ما بيننا لم يكن حبا، لقد اعتدتكِ ولا أنكر هذا، راق لي تفكيركِ المتمرد، الغاضب، الذي يختلف عن كل فكرة تنتمي إلى أفكاري، كنتُ أجد معكِ متعة في نقاشاتنا، اقتربت منكِ، درستكِ عن قرب وكنتِ إضافة جديدة إلى قاموس المعرفة عندي، هذا أكثر ما يمكنني اختصاره عن وجودي في حياتكِ، لا أقصد أن أجرحكِ، قد أكون تلاعبت بكِ -بل تلاعبت بكِ بالفعل- ولم أقصد ذلك وأنا أعي ما أقوله، أعْجِبْتُ بكِ هذا صحيح، ولكنني فشلت في حبكِ وأنا الذي تمنيت أن أنجح في هذا الحب، خذلتكِ أعلم، ستكرهينني؟ هذا من حقكِ، ستحقدين علي؟ هذا أقل ما يمكنكِ فعله، لن أقول لكِ لا تفعلي لأنه عليكِ أن تُخرجينني من قلبك، يتوجب عليكِ فعل ذلك، اصفعيني إن شئتِ،  تصرفي معي كما أردتِ، ولكنني تلاعبت بكِ وأنا النذل الحقير وأنتِ المسكينة التي انكسرتي على يداي. تجاوزيني كصفحة، تجاوزيني كما لو أنني لم أكن، تجاوزيني مجبرة لا مخيرة، وانسي أنني ذات يوم كنتُ هنا في قلبكِ الأبيض الذي لم يلائم سوادَ قلبي…”

أذكر حينها أنني تعاملت معه بقسوة، قسوة قلب عاشق مجروح، قلبٌ انهار على يد مالكه، كنتُ لأتوقع ما حدث مع أي رجل عداه، فهو الرجل الإستثنائي الذي لا يُشبه سوى نفسه. تساءلت مرارا لما فعل بنا هذا؟ وكيف استطاع أن يفعل بنا هذا؟ لقد وعدني بحب سيبقى خالدا، فكما قرأنا عن حب نفرتيتي لزوجها أخناتون، عن إيزيس وأوزيريس، عن قيس وليلى، عنترة وعبلة، عن كليوباترا وأنطونيو…، كنا سنكون -جابر وروان- ولكنه استعجل برحيله، استعجل ولم يتمهل.

بعد ذلك بثلاثة أشهر، ثلاثة أشهر من حياتي الباهتة، توصلتُ بظرف مكتوب عليه “حينما تصلكِ هذه الرسالة سأكون من الراحلين”. لم أفهم فهو راحل قبل ثلاثة أشهر عن هذه الرسالة فما الفرق؟ وما الذي تغير؟؟ ولكنني فهمتُ قصده حينما قرأتُ ما فيها وأدركتُ حقا أنه الآن فقط صار من الراحلين.

لم أكن أعلم أن فترة حبنا تزامنت مع صراعه مع الحياة، كان يعاني في الخفاء، كان يعيش آخر لحظات حياته وحينما ظهرتُ أنا لم يمنع نفسه من أن أكون أنا آخر لحظاته، آخر أحاسيسه ومشاعره، آخر نبضاته.. أراد جدا أن يعيش السعادة، أن يتجرعها، أن لا ينزوي في غرفته المليئة بالأجهزة الطبية، أن لا يعيش الحزن وهو لا يملك من حياته سوى الوقت، القليل من الوقت.

الآن فهمتُ المغزى من حبه للحياة، لم يكن ناقما أو ساخطا، بل كان قنوعا وراضيا بما أصابه، لم يُشعرني يوما بما يمر به، كان قويا للحد الذي واجه مرضه لوحده برجولة وشهامة ولم يضعف ولم يعلن استسلامه. بالرغم من أنه كان متهتك داخليا عاش الحياة التي تمناها معي أنا، ولم يكن آسفا على ذلك.

أدركت الآن أنني أنا المريضة، أنا من أحتضر، أنا الضعيفة أمام الحقائق التي واجهتها، أدركتُ أنني هشة وحتما كنتُ سأنهار إن عَلِمتُ بمعاناته ووجعه وصراعه المميت. ما كنتُ لأتخلى عنه، لم أكن لأتركه يصارع وحده، ما كنت لأتخلى عنه لا قبل علمي بمرضه ولا بعد ذلك. يؤلمني حقا أنه أخفى عني ما أعلم أنه لم يكن عليه هين..

الحب يدفعنا لأن نتقاسم سويا كل المشاعر، أن نعيش معا في السراء والضراء، أن نعيش كل التفاصيل بأحزانها وأفراحها، كان علي أن أعيش معه حزنه كما عشتُ معه الفرح، كان يتوجبُ علي أن أقدم له السعادة التي اعتادها حتى وهو على فراش الموت. أَعتب عليه لأنه أخفى عني حقيقة كهذه، وأعتب علي لأنني لم أحاول أن أفهم ما يمر به ولم أستوعب أنه يوم تركني مع ذاك الكلام الذي خرج من فمه كالرصاص لم يكن يصيبني أنا بقدر ما أصاب نفسه، أرادني أن أكرهه كي أتمكن من نسيانه، ولكنني عجزتُ عن فِعل ذلك.

يؤلمني أنني لم أشاركه آخر لحظاته، ولم أمسِك بيديه وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة. كان أنانيا، أنانيا للحد الذي سلب مني الحق في الموت معه وكل ما يشفع له عندي أنه ختم رسالته بـ:

“أنا لا أكتب رسالة وداع، ولا أكتبكِ فحسب، أنا أكتب رسالة اعتذار حقيقي، ها أنا يا لؤلؤة قلبي على فراش الموت أموت وجل ما أفكر فيه أنتِ، فقط أنتِ، ومن فرط الوجع الذي أشعر به في هذه اللحظات الوشيكة على مفارقة الحياة أفكر في قلبكِ هل سيقسو علي؟ ترى هل ستغفرين لي فعلتي؟

أعرف أنكِ متمردة، غاضبة، صعبة، ستلومينني لأنني سَكَتْ أعلم، ولكنني أردتُ أن أحافظ عليكِ كما أنتِ، بحيويتك وشقاوتك، لو أنني أخبرتكِ بما أعانيه كان المرح الذي يحرككِ كطفلة سيتلاشى، ولمعة عينيكِ ستنطفئ وهذا ما منعني، أن أحترق وحدي أهون من أحترق مرتين، مرة بسبب وجعي والثانية بسبب وجعكِ لوجعي. فاعذريني يا من رأيتُ بكِ كل العالمين، اعذريني يامن كان على يديكِ صلحي مع هذا العالم البائس…”

أصابني الفزع، وجمدت في مكاني، حلت علي لحظة صمت مريبة، حاولت استيعاب ما عشته معه، ما عشته بعده وما أعيشه الآن، ضحكت ضحكة هستيرية كما لو أن الأمر برمته ليس سوى كاميرا خفية و سيظهر أمامي في أي لحظة ليقول لي أنها خدعة وكل ما حدث ليس سوى مقلبا، ولكنه لم يظهر ولم يأتي، فبدأت أشعر بجدية الوضع، ومن ثم بكيت حد الألم. لو أنه تخلى عني أهون من أن يفارق الحياة بأسرها، لا بأس أن نكون في أرض واحدة، تحت سماء واحدة، نستنشق الهواء نفسه، كان يكفيني أن أعلم أنه على قيد الحياة لأكون أنا على قيد الأمل، على قيد الأمان والطمأنينة… ولكن أن أكون أنا هنا وهو هناك في عالم الأموات كان الوضع قاسيا لا يتحمله قلب في حجم قبضة يدي.

لا شئ يكتمل في هذه الحياة… السعادة الأبدية ضرب من الجنون ولابد للحزن أن يحل علينا كضيف ثقيل على القلب لا نرغب فيه ولكننا نستقبله مرغمين… جابر كان جابرا لقلبي، وجبر ما في دواخلي، لوهلة ظننت أنه تجبر علي وجحد يوم رماني بأسهم كلامه القاتلة ورحل، في حين أنه تخلى عني مجبرا لأن القضاء والقدر حال بيننا وكان هو سيد الموقف، فأدركت أنه مهما حاولنا أن نعيش السعادة ومهما حرصنا أن نسرق من أيّامنا لحظاتٍ جميلة، ومهما حاولنا أن نبقى معاً لآخر العمر، فالّلقاء لن يدوم، لأنه ليس بيدنا حيلة أمام تصاريف القدر، وتقلباته. لقد كان في حياتي كمعجزة لم يشعر بها سواي، أحببته للغاية وحينما رحل انكسر قلبي وانطفأت وكم انتظرت عودته من جديد ولكنني الآن أيقنت أنه كالعمر بقدر ما أتمنى استرداده إلا أنه لن يسترد، رحل جابر القلب ورحلت معه كل توقعات عودته..

يمضي العمر ونحن نترقب الفرح، نأمل أن تكون النهاية سعيدة، ننتظر ذلك ولكن لا شيء يحدث ولا شيء يأتي، بدايتنا كانت عكس ما آلت إليه الأمور، أحببته فوق حب المحبين حبا، حبه كان وسيبقى في قلبي خالدا مخلدا وسيصاحبني عمرا وكأنه الأبد.

عزائي الوحيد أن وجوده ولو بالبعد هو سند هائل لي وكلما اشتقته حضنت الأرض حيث صار مسكنه. فارقد بسلام إلى أن يأتيني الله بك.

 

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version