تعلم فن التجاوز

هل سبق لك أن تجولت في شوارع مدينتك دون أن تختار وجهتك؟

تسير في كل الزقاق التي تعرفها وحتى التي لا تعرفها؟

تسير في أماكن لأول مرة تكتشفها وتمر بها ولكنك غائب عنها غير منتبه لوجودها وغير مكترث لاكتشافها؟

تسير دون أن تفكر مسبقاً في طريق العودة، ودون أن ترسخ في ذهنك الطرق التي سلكتها، تتجول دون أن تتساءل إلى أين سيقودك هذا الطريق ودون أن تضع في ذهنك أنك قد تتوه في إحدى الطرق..؟

تسير مدة طويلة، فتحسبها مدة قصيرة، لأنك لست هنا، جسدك على قيد الحياة، قدماك ثابتة فوق الأرض، ولكنك لست هنا، لست معني بهؤلاء الناس، لا صلة لك بهم، ولا تنتمي لكل هذا العالم، تسير فتصطدم بالناس وتُكمل سيرك دون أن تعتذر من أحدهم ودون أن تبدي أسفك نحوهم، تعيش حالة تيهان، تخبط، فوضى، غارق أنت فيك ولا نجاة لك من نفسك..

تجلس بينهم، ولكنك لست معهم، هم يتحدثون وأنت في مجلسهم، لا تشاركهم أحاديثهم ولكنك بينهم تبدو كمستمع يُصغي جيداً لما يقولونه ولو سألوك عن رأيك سيجدونك مستمعاً زائفاً، لأنك حاضر غائب، جسدك هنا، ولكن فكرك هناك حيث اللاعودة، راح يتجول في الأعالي، راح إلى حيث أتعبه التفكير، خذلك وتركك شارد الذهن، تركك لأفكارك التي تنهشك..

هل سبق لك أن شعرت أنك متعب كعجوز بلغ من العمر عتيا؟ هموم الحياة كلها تحملها فوق كاهلك، تريد أن تتنفس قليلاً ولكن أنفاسك تصعد متثاقلة، ملتوية، لا تساعدك ولا ترحمك..

هل سبق لك أن شعرت بالضعف نحو كل شيء والعجز على فعل أي شيء، أن ترى هاتفك يرن ولا ينتابك الفضول عن هوية المتصل، هكذا تضعه فوق ذاك الرف المنسي وتتركه يرن دون أن تُكلف نفسك عناء الرد..

لا تأبه لشيء، لا تتواصل مع أحد، لا ترد على الرسائل المرسلة إليك، تهمل هاتفك نهائيا حتى ينتهي شحنه ولا تفكر في شحنه حتى، لأن الأمر لا يهمك وما عاد يهمك..

تهمل هاتفك لأيام طويلة دون أن تشتاق إليه بعدما كنت مدمناً عليه إدماناً شديداً وبعدما كنت مدمناً على كل ما يأتيك به وكل ما فيه ويحتويه.. تنقطع أخبارك عن المحيطين بك، ترفض الحديث مع أحد، تنزوي، تنعزل، تتقوقع، لا تريد أحدا في حياتك لأنك اكتفيت من كل شيء حتى من ذاتك…، فجأة تصبح شخصا آخر غير الذي كنت عليه.

تقف أمام المرآة لتتعرف عن الشخص الذي سيظهر أمامك، تقف مذهولاً أمام ذاك الشخص، مدهوشاً ومرتعباً..، تقول “يا إلهي من هذا الذي يقف أمامي، يتصرف مثلي، يتحرك معي، يشبهني، وكأنه أنا؟؟”

ستقف أمام المرآة لمدة طويلة، وسيخيفك النظر إليها كثيراً، لأنك لن تنظر إليها على أنها مرآة تريك جسدك الخارجي فحسب بل سترى فيها كل ما يصعب على الشخص رؤيته..

هذه المرة ستتعمق في شخصك ولن تبحث في مرآتك عما يجعلك تبدو جميلاً في أعين الناس ولن ترى يا عزيزي تسريحة شعرك كيف تبدو ولن تتأكد من كون لحيتك منظمة وجذابة، ولن ترين يا عزيزتي في مرآتك هل الكحل مازال في موضعه وهل ازداد وزنك عن آخر مرة أم مازلت كما أنت، لن تدققوا في وجوهكم هل بدأت تجاعيدكم بالظهور أم مازلتم في مرحلة أبعد من ذلك..

جل الناس يستعملون المرايا لنفس الغرض وهو التمعن فيما هو خارجي إلا أنك في عز تخبطك وتيهك لن تحتاج المرآة لهذا الغرض..

سينتابك شعوراً أن الأمر في غاية الصعوبة لأن الحقيقة أن الوضع ليس بتلك السهولة، سينتابك الخوف أمامها وستحس برهبة المرآة لا لشيء سوى لأنك ولأول مرة تقدر وجودها وتتعمق فيها للوصول إليك وتتحاور معها لتعكس ما بداخلك..

سيتضح لك أنك لست كاملاً كما تدعي ولست ملاكاً كما تظن، فبداخل كل شخص سر أو مجموعة من الأسرار، وبداخل كل إنسان شيطان، وفي خبايا كل شخص مجموعة من الأفعال التي سلكت منحى سيء يسوده الشر..

ستفهم أنك لست نقياً إلى ذاك الحد ولست بريئاً على الإطلاق، سيزعجك وقوفك أمام مرآتك بعدما رأيت فيها انعكاس لروحك وحقيقة ما يسكنك ، ستكتشف أنك سيء إلى حد ما ورغم يقينك بذلك إلا أن السوء مازال يرافقك لأنه اعتادك، أن تقف أمام المرآة يعني أن ترى من خلالها ما لا تريد أن تراه وكلما أدركت حقيقتك كلما زاد كرهك لنفسك، ستتمنى لو أنك نظرت إليك في المرآة نظرة سطحية ولم تتعمق فيك إلى الحد الذي زادك فوق التعب تعباً..

سيرفض عقلك هذا الإنعكاس ولن تتقبل ما رأيته، ستنكر الشخص الذي أمامك ولن تعترف مطلقا أنك تعرفه لأن اعترافك به هو اعتراف ضمني لك يدعوك لأن تتصالح معك بعد أن قامت المرآة بتعريتك أمامك دون أن تستحي منك، فالمرايا فضيحة دواخل البشر..

كل شيء يدل على أنه أنت، المرآة تخبرك أن هذا الشخص هو أنت، ولكنك ترفض هذه الحقيقة لأنك ترفض حقيقة نفسك، ترفض ما أنت عليه، وما كنت عليه، وما صرت عليه، ولكنه أنت، أنت بكل حذافيرك.

ستكتشف أنك غاضب منك أكثر من غضبك ممن حولك، وستعي أن غضبك ناتج عن كونك غير راضي لما آلت إليه الأمور، ستفكر أن كل ما يوجد في هذه الحياة خلق ليكون ضدك، وكل من أمنت على نفسك معهم خذلوك بطريقة أو بآخرى، ستجد نفسك تتخلى عن أشياء كثيرة كسبتها مع الأيام ، ستجد نفسك مرغما أن تعيد للحياة ما أعطتك إياه كأنها أمانة حان الوقت لها لتستردها منك، ستجد أن تلك الأشياء كانت ملك لك لفترة مؤقتة وبعدها سيتم سلبها منك في اللحظة التي تراها الحياة مناسبة..

فمن صفقات الحياة أن تسعدك وترضيك وتعمي بصيرتك بجمال ما حولك و تغريك بعطاءاتها اللامتناهية لتلسعك في النهاية كعقرب مميت وتسقطك أرضا وأنت بكامل ضعفك وألمك ..

ستهرب منك بأي وسيلة كي لا تغرق فيك أكثر، ستهرب من الحقائق التي عشت عمرا تتفادى التفكير فيها، ستهرب ولكنك ستقف حينما تستوعب أن الهروب لن ينفعك في شيء وأنك لو عشت حياتك هاربا سيأتي اليوم الذي ستعي أنه ما عاد بمقدورك الهروب أكثر لأن الهروب لم يكن حلا ولن يكون، أنت فقط زدت الطينة بلة وساهمت في تعقيد الأمور.

ستصادف في حياتك عراقيل لا تنتهي، ستعبر مطبات عديدة وستواجه العديد من العقبات، طرقك ستكون وعرة، ملتوية، وفي كل مرة سينحرف بك الطريق ليقودك نحو الحافة ولكنك ستنجو بأعجوبة لتواصل باقي العواقب والعراقيل.

حياتك لن تكون سهلة وإلا ما كانت للحياة أي طعم أو غاية، ستمر بلحظات تحسبها نهايتك، سينكسر قلبك، ستنهار عند المواقف المؤلمة، ستجهش بالبكاء كالأطفال حينما تتم أذيتك، ستحزن اليوم وغدا وما بعده، ولكن هذا لا يدل أنك لن تفرح في بعض الأيام ولن يضيء وجهك بابتسامتك وحتى ضحكتك..

ستعيش في الحياة كتائه تاه عن طريقه، ستيأس وستصبح فكرة الاستمرار في هذه الحياة مستحيلة، ستنتابك أفكار لعينة كالانتحار مثلا ولكن لو توفرت أمامك كل سبل موتك إلا أنك سترفض قتل نفسك أو قتل أحدهم لك هذا لأنك متمسك بالحياة وتحبها بقدر كرهك لها.

ستقابل في حياتك أصناف عديدة من البشر، أحدهم سيكون صديقا مخلصا والآخر سيكون صديقا مؤذيا، ستقابل حبيبا ظالما والآخر لا يريد من الحياة سوى أن يراك سعيدا، ستقابل أشخاصا غايتهم أن يوجعوا قلبك فيكونوا عبارة عن الداء الذي سيلازمك وستقابل صنفا لا يريد سوى أن يكون دواءا وبلسما لجروحك، ستقابل من يذبل قلبك وفي المقابل ستصادف من يزهر ذاك القلب بعد أن يذبل..

ستقابل كل الأصناف، سيخيب ظنك كثيرا، سيكون سقوطك أكثر من نهوضك، وحزنك أكثر من سعادتك، ولعلك ستتوجع إلى الحد الذي لن يؤثر فيك الوجع أكثر فتتحول إلى شخص لا تعرفه، نسخة طبق الأصل عمن خذلوك، لعلك ستصبح ظالما بعد أن ظلموك، وقد تصبح خاذلا بعد أن خذلوك، ستكون كاسرا مثلما كسروك، وستوجع قلوبهم مثلما اوجعوك، ستتمادى في تصرفاتك مع من أحبوك ولن تحس بأحد لأنه في اعتقادك لا أحد أحس بالخنجر الذي أصاب قلبك ولم ينزعوه، ستتحول إلى شخص يستحوذ عليه البرود ولن تعتذر من أحد على برودتك لأن لا أحد اعتذر منك حينما صرت باردا بسببهم، ستنظر إلى الجميع على أنهم متشابهون ولن تثق في أحد من البشر لأنهم اهلكوك واستنفذوا طاقتك…

ستغضب منهم ومنك ومن الحياة بأسرها، لن تتعاطف مع أحد بمن فيهم أنت لا لشيء سوى لأنك تعاقب نفسك على أشياء تظن أنك كنت قادرا أن تتفاداها بدل أن تتورط فيها وتوصلك حيث أوصلتك الآن.

ستمر بعواصف كثيرة، ستهيج دواخلك، ستشتعل في قلبك نار تحرقك، ستتمزق بكاملك ولن يتبقى فيك شيئا صالحا وسالما لتستمر به وتقوى بسببه..

ستتغير وجعا، ستتأذى في أعمق ما فيك، ستمس كرامتك، تخدش ذاكرتك، ستتكاثر الثقوب في قلبك، ستنسحق نفسيتك، ستتحطم دواخلك وتشيخ ملامحك، ستتضرر عينيك وتغيب ابتسامتك، ستصمت قهرا، ستصمت بقدر التعب المتراكم فيك..

ستحمل فوق صدرك هموما أكبر من عمرك وأثقل حجما من قدرة تحملك، ستصمد اليوم وتقاوم غدا، ستحاول أن تمضي قدما بدونهم وبدونك أيضا، ستسقط بعد كل محاولة فاشلة وستنهض مجددا بكسور بلغت منتهاها إلا أنك قد تحارب هذا الإنتهاء كي لا يقال عنك “انتهيت”.

ثم ماذا بعد كل هذا؟

ما الذي سيحدث بعد ان عشت كمتشرد تائه لا مأوى له؟

بعد أن تأوهت كثيرا وهربت إلى حيث أوشكت أن لا تعود؟

ما الذي سيحدث معك بعد أن أعلنت غضبك منك ومنهم ومن حياتك التي تراها كلعنة تلاحقك؟

ما نهاية هذه الفوضى العارمة التي تسكنك؟

ثم ماذا ولماذا ولأجل ماذا ستتحول إلى ضعيف داخليا، متهتك نفسيا، قاسي خارجيا، ضائع حياتيا…؟

هي معمعة لا متناهية ولكن ما أكثر الحلول التي تحوم حولك، والحل ليس بمستحيل هو فقط بحاجة إلى شخص شجاع يضع في ذهنه أنه يستطيع..

ستنهي هذه المآساة وستكف عن هروبك هذا، ستتصالح معك، وترضى بالحقائق التي لا ترغب فيها..، ستحاول أن تتجاوز ما مضى لأن ما مضى قد مضى وانتهى بشعوره وأوجاعه وأحداثه القاسية، ستتخطى آلامك باستنادك على نفسك، ستكون سندا لك وستقوي نفسك بنفسك، ستتعلم من آلامك ما يجعلك تتفادى مثلها مستقبلا، وستتعلم من أخطائك حتى لا تكررها مجدداً..

جميعنا معرضين لفترات متشابهة، فترة نتغير فيها بدون أي حول منا ولا قوة، ستتغير شخصياتنا، اهتماماتنا، تقل عاطفتنا، نستخدم عقولنا ونركن قلوبنا لفترة طويلة من فرط الوجع الذي عشناه، ولكننا في نهاية المطاف علينا أن نكتفي بقدر معين من الحزن، كي نستطيع أن نتحرر من الشخصية المأساوية التي رافقتنا فترة من العمر، علينا أن نتعلم فن التجاوز للأمور العالقة وأن نمضي قدماً.

انطفأت بما يكفي أليس كذلك؟

حان الوقت لتضيء فيك ما انطفأ وتستعيد نفسك التي تاهت عنك وأنت مشغول بالهروب منك بعيداً ونسيت أنك مهما حاولت الهروب من كونك أنت ستجدك دائماً معك ملتصقاً بك لأنك أنت منك وفيك.

وفي محاولاتك لاستعادة نفسك ضع في ذهنك أن القاع القاسي الذي ارتطمت به في مرحلة من مراحل حياتك أصبح هو الأساس الصلب الذي أعدت عليه بناء حياتك من جديد..

وتذكر دائماً أنك لست لوحدك بل لك رب من فوق سابع سماء يعينك ويسندك ولن يتخلى عنك.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version