جامعة بورورو

يخلص المتأمل للمشهد الجامعي الجزائري إلى نتيجة قاسية تنطوي على التراجيديا التي يتخبط فيها هذا الركح التعليمي، مأساة لم يخفها وزير التعليم العالي السيد حجار عندما وصف الجامعة الجزائرية منذ مدة بالفاقدة للحياة..

تعبير صريح يُقابَل بمساءلة عن الأسباب التي أدت إلى الإجهاز على هذه المؤسسة الاستراتيجية في حسابات الأمة وقبر بِذارها الحضاري في المشروع البنائي الطويل، والحقيقة أن مصطلح “المساءلة” ينفتح على طرفين ويرتبط بصاحب شرعية ما في مواجهة الطرف الآخر ذي السلطة وهو أبعد ما يكون عن واقع الحال في الجزائر.

لذلك فمن الجائز اعتماد أولا مصطلح “الدراسة” لسببين: أولهما أننا لم نلج بعدُ العتبة الأولى لزمن ما بعد الفشل والثانية أن الدراسة تستوعب جميع الأطراف وتُؤدى هذه الوظيفة بحوار بناء ومنسجم لا تُزايد فيه أهرام السلطة ولا تتحصن بحجج القوة، وإن التعكز على الدراسة الشاملة والعميقة في بواكير العملية لهي تهيئة لمرحلة المساءلة الفعلية والفاعلة. لكن ثمة ما يشبه العرف المتنفذ والمستشري في الجزائر يحيل العملية أعلاه إلى مجرد أضغاث أحلام، يقضي هذا العرف بالقفز على الأمور والهروب للأمام كلما تراءى المسلك مسدودا، قفز مخادع يجعل البلاد تعود دوما لمركز الخطايا القاتلة.

في العمق، لا يلازم هذا الفشل الجامعات قديمة النشأة فقط؛ بل نراه يُعطل حتى الجامعات حديثة النشأة، فجامعة تيبازة التي لم يمضِ على تدشينها أكثر من نصف عقد تتخبط اليوم بين براثن “بورورو” الغول الأسطوري الذي كانت تتشدق به أمهاتنا في حكاياتهن المرعبة والباعثة على الانطواء والانكفاء..

فيما يخص جامعة تيبازة التي هي نموذجا للوليد المشوّه ثمة افتراض وحيد لوضعها الراهن وهو أنها لم تأتِ سوى كنتاج لمرحلة طويلة من العطب ولأزمة تشكيكية طالت المؤسسات والأفراد وكل من يدبّ على أرض الجزائر، أزمة أدت إلى تعميق الفجوة بين الجامعة والمجتمع عامة فتخلى المجتمع المدني عن المسألة الطلابية ولم تعد مؤسسات المجتمع المدني معنية بشكل أو آخر بالحريات الطلابية التي هي مصدر حقيقي للتجارب ومن ثمة الإبداع.

لقد ترك هذا الواقع الطلاب الجزائريين بكافة توجهاتهم واهتماماتهم عرايا من دون سند في مواجهة القمع المباشر للإدارات الجامعية المستحكمة بالسلطة بطبيعة الحال، وكان التنظيم الطلابي أول هدف، وبهدف قطع دابره قامت إدارة جامعة تيبازة -التي هي وليدة ما قيل أعلاه- باستغلال غياب دور المجتمع المدني وانسداد كل أبواب المعرفة الحقوقية أمام الطلاب المسيّسين أو المتعطشين للنشاط الطلابي بل تابعت قضائيا من تمسكوا بالحق في التنظيم الطلابي وواجهتهم بالخطاب التقليدي الخاوي عن الرغبة في زعزعة استقرار الجامعة..

يطرح هذا الخطاب المستهلَك حقيقة العقلية غير المنتجة للقائمين على الجامعة ومن ثمة يحيل التصوّر إلى الأسباب التي عطبت الأنشطة الطلابية المختلفة حتى الثقافية والأدبية منها، فهؤلاء نسخة مجسَّدة للإدارة الجزائرية “المشيّخة” والتي تواجه كل رغبة في التغيير والإبداع والخروج عن الخطوط الصدئة للمنهج المتبع بقوة وعنف أحيانا.. إن الإشكالات العميقة التي تواجهها جامعة تيبازة أوْلدت لنا انعدام صورة واضحة عن ماهية الجامعة لدى عموم الطلاب والمجتمع المحيط على حدّ سواء، ولقد انحصر الحكم على تلك التجربة في الجانب الأخلاقي فقط، عن تحركات الطالبات ولباسهن وعن مشرب الطلاب ونواياهم، لم تعد الجامعة المركز الرحبّ الباعث على الإلهام والتحفز، فقدت الجامعة قدرتها على لعب دور في سياق التحولات السياسية والاجتماعية ومن ثمة يطرح واقعها سؤالا مُهمًا إن كانت قادرة على تصدير الطاقات والكفاءات المطلوبة.

إن الذي يحزّ في النفس أن جامعة فتيّة نشأت في طور تعاظم فيه الأمل بتحقيق الطفرة التعليمية المرجوّة مثل جامعة تيبازة قد وُلدت عجوزا بنفس الهيئة التي انتهت عليها تسعينيات العشرية الشيطانية، مناخ تضييقي يصادر الحريات فينصب الشغل الشاغل لأعوان الأمن بالجامعة مثلا على مراقبة كل مقعد يجلس فيه طالب وطالبة حتى وهما يذاكران، وكم من مرة تقدم العون مدفوعا برغبة إثباب الاجتهاد وطلب “لاكارتْ” من الطالبين لمجرد أنهما من جنسين مختلفين في مشهد يعود بنا إلى بدايات تسعينيات القرن الماضي عندما كان ما سمُيّ وقتذاك بالشرطة الإسلامية تهاجم كل زوجين للتأكد من شرعية علاقتهما حتى وهما في وضعيات محترمة وغير مشبوهة..

المأزق الجامعي الراهن أضحى ينتج المواطن الصامت على المقاس وفي النهاية لا يُنتظر من هذا الوضع سوى مزيدا من تلاشي القيم الجمعيّة وتصحرّ البنية المجتمعية.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version