جبل التروبيك.. الحلقة المفقودة في أزمة الرباط ومدريد

منذ 19 سنة مضت، والمد والجزر يقلب العلاقات الإسبانية المغربية، فمنذ أزمة جزيرة “ليلى” إلى تدفقات المغاربة على حدود سبتة، وعلاقات البلدين كلما اشتعلت خبت، وكلما خبت اشتعلت، فلكل منهما مصالح لدى الأخرى؛ يلعبان من أجلها بالبشر والحجر.

ومن الغباء بمكان ربط ما رأيناه جميعًا خلال اليومين الأخيرين في الحدود الشمالية للمغرب مع سبتة؛ بالأزمة الديبلوماسية بين الرباط ومدريد وتعليقها على مشجب قضية استقبال إسبانيا لابراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو التي تنازع الرباط على إقليم الصحراء.

فاستقبال إسبانيا لزعيم الجبهة ليس سوى “مسمار جحا” في مسلسل من الأخذ والرد بين البلدين، بدأت فصوله في نهاية كانون الثاني/ يناير 2020؛ عندما صوت البرلمان المغربي، على مشروعي القانونين 37.17 و38.17 لتحديد الحدود البحرية لأول مرة مع إسبانيا وموريتانيا، بما في ذلك المياه المحاذية للصحراء الغربية، وهو ما اعتبرته إسبانيا تداخلات فيما يتعلق بمياه جزر الكناري.

هاذين القانونين أثارا حفيظة الإسبان خصوصًا حكومة جزر الكناري المتمتعة بالحكم الذاتي؛ والتي قالت للمغرب بأن تعيين الحدود البحرية مع البلدان المجاورة يخضع لـ”اتفاق متبادل”.

والكلمة المفتاح لهذه الأزمة والتي سقطت عمدًا أو سهوًا من تحليلات القضية هي “جبل التروبيك”، أهم موقع لمعدني “الكاوبالت” و”التيلوريوم” في العالم، والذي يقع على بعد 250 ميلًا جنوب غرب جزر الكناري.

وبعد المصادقة المغربية على القانونين؛ صعدت حكومة جزر الكناري إلى جبل الرفض، واستعصمت به لمواجهة العلاقات بين الرباط ومدريد التي كانت في شهر عسلها آنذاك، خصوصًا بعد زيارة ملك إسبانيا واستقباله من طرف العاهل المغربي، والاتفاقيات التي ابرمها الجانبان في تلك الزيارة.

توتر العلاقات المغربية الإسبانية

ولأن جزر الكناري مستقلة بقرارها بقوة الدستور الإسباني؛ كانت حجر العثرة في وجه ترسيم الحدود البحرية؛ أكثر من مدريد نفسها، كان لزامًا معاقبتها.

أكبر موجة من قوارب الهجرة غير النظامية نحو تلك الجزر؛ التي استقبلت 23 ألف مهاجر سنة 2020، وفق أرقام رسمية، أغلبها من سواحل الصحراء الغربية؛ وعلى وجه الخصوص سواحل مدينة الداخلة؛ والتي وقفت أنا شخصيًا في إطار تحقيق صحفي حول الهجرة على تورط السلطات المغربية فيها بشهادة مهربي بشر وعصابات تنظيم الهجرة.

ورغم الضغط المغربي على إسبانيا؛ والذي مثل صار كالكماشة ضاغطة من جهتين؛ إقتصادية تمثلت في الشمال باغلاق معابر سبتة ومليلية، وسياسية في إغراق الجزر من الجنوب بالمهاجرين؛ إلا أن العلاقات الثنائية لم تصل إلى حدتها.

وعلى العكس، ظلت العلاقات بين الطرفين تشبه إلى حد ما “شعرة معاوية” يشدها المغرب وترخيها إسبانيا؛ حتى قطع الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، تلك الشعرة باعترافه بمغربية الصحراء، مقابل إعادة علاقات الرباط وتل أبيب؛ وهو الأمر الذي أثار حفيظة الإسبان مرة أخرى؛ إذ شعرت مملكة قشتالة أنها جرحت في كبريائها فقد تم الأمر دون علمها، بل علمت به كأيها الناس عن طريق الصحافة، وأن المغرب أزاحها من ملعب مستعمرتها السابقة.

بعد ذلك جرت مياه كثيرة من تحت الجسر، كان أهمها تعليق القمة الثنائية رفيعة المستوى بين البلدين، وإلى أجل غير مسمى، وبأعذار كثيرة؛ منها ما فرضته جائحة كورونا، وغضب المغرب من تغريدة زعيم حزب “بوديموس” اليساري المناصر لجبهة البوليساريو، واستمر الأمر حتى رأينا بأم أعيننا الهجرة الجماعية للمغاربة نحو سبتة، وهي هجرة لا يلام عليها شعب يائس، فاليائس معذور على أية حال.

تلك الجحافل البشرية التي أطلقتها الرباط لتأديب مدريد على استقبال إبراهيم غالي كما يراد لنا أن نفهم؛ أعطى إشارة بدئها محمد الدخيسي، المدير المركزي للشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني، على القناة الثانية، الذي أشار إلى أن الرباط “رفعت يدها” عن التعاون الأمني أو في مجال الهجرة مع إسبانيا.

وبالاضافة إلى كلام الدخيسي الذي يؤكد مسؤولية الرباط ضمنيًا كان كلام وزير الدولة لحقوق الانسان دليلا آخر “يمد رجليه” جعل الأمر من شمس الظهيرة أوضح.

في المحصلة، ولكي نعرف ما تحت رماد تدفقات الهجرة من ماء عفن؛ ونفهم مسار الأزمة الديبلوماسية بين الرباط ومدريد علينا أن ننظر إلى ما يخفيه جبل “التروبيك” تحت الماء من معادن، فالبركان القديم؛ الذي يرتفع من قاع المحيط، على عمق أكثر من 4000 متر، ويصل إلى 1100 متر من السطح؛ انفجر بالبشر في صراع سياسي يبدوا أنه سيغير العلاقات بين المغرب مع دول الاتحاد كلها وليس إسبانيا فقط.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version