حلم اللغة الصورية – سلامة موسى تمثيلا
درج التمييز بين اللغة الطبيعية واللغة الصورية؛ لاختلاف في المنشأ وفي الطبيعة والوظيفة.
اللغة الطبيعية واللغة الصورية
فإن كانت الأولى هي لغة التواصل والخطاب اليومي بين سائر البشر، أي اللغات المتداولة للتواصل الإنساني على اختلافها، تمتاز بالعاطفة والانفعال ومجال التأويل الواسع كسمات بارزة، فـ اللغة الصورية عكس ذلك؛ هي لغة العقل والمنطق، لغة الدقة في المعنى دون سيلانه على الجوانب.
اللغة الصورية إذن تسمو على الطبيعية من حيث إصابة المعنى المقصود بدقة دون ترك مجال لتُحمل على غيره. فقولنا إن 2+2 = 4 أمر لايختلف عليه اثنان في الحالات العادية.
لهذه العلة بالذات، حاول كثيرون رفع اللغة الطبيعية لمقام اللغة الصورية لاسيما في مجال الخطاب القانوني التشريعي؛ حيث المحاولات الجادة والمجهدة لحصر مدلول اللفظ التشريعي في معنى واحد لا يحتمل اللبس. وهو اتجاه له ما يبرره على كل حال.
هذه النزعة نحو الصورية تعالت نداءات الداعين إليها خارج هذا المجال أيضا؛ إذ نودي باتخاذها منهجا في التحرير الصحفي والأدبي، بل وفي لغة الخطاب اليومي كذلك.
يبرز من هؤلاء، بقوة، اسم المفكر المصري سلامة موسى (1887 – 1958) أحد مفكري الجيل الثاني لما عرف بالنهضة العربية الحديثة.
تميز سلامة موسى – بعد سفره لبريطانيا خصوصا – بأخذه لموقف أشبه ما يكون بموقف المعارض لكل شيء:
متمرد على السائد من أوضاع، حامل لمشاريع فكرية راديكالية في الاجتماع والاقتصاد، وفي اللغة بشكل خاص.
هذا الأخير، أي “مشروعه” اللغوي، انفرد فيه سلامة موسى برؤية خاصة التقى فيها أو في بعضها مع غيره من مفكرين كـ قاسم أمين، ويليام ويلكوكس، عبد العزيز فهمي، وغيرهم.
نجد رؤيته وتوجهه واضحين في كتابه ‘البلاغة العربية واللغة العصرية’ (بالإضافة لفصول متناثرة في مؤلفات أخرى: اليوم والغد، في الأدب والحياة، الأدب للشعب…).
حيث أنطلق من مقال للأستاذ “أحمد أمين” يؤكد فيه هذا الأخير على أن الكلمات تتغير بتغير سياقها المكاني (المجتمع) والزماني (العصر). كانت هذه الفكرة هي المنطلق، كما اعترف نفسه بذلك.[1]
ليخوض بعد ذلك في الشرح وبناء نظرة أكثر وضوحا واكتمالا.
سلامة موسى والتمييز بين البلاغة القديمة والحديثة
فكرة سلامة موسى تقوم على التمييز بين البلاغة القديمة (بلاغة الانفعال والعاطفة) والبلاغة الجديدة (بلاغة العقل والمنطق) حيث الزخارف اللغوية أقل أهمية من المضمون، غايتها الأساسية إصابة المعنى بدقة.
موثرا الثانية على الأولى باعتبارها بلاغة عصرنا وزماننا، بل ويزيد على ذلك كونها مفتاح التقدم؛ إذ أن تأخرنا اللغوي -كما يؤكد سلامة موسى- سبب من أعظم الأسباب لتأخرنا الاجتماعي.[2]
هذا التأخر مرده أساسا للغتنا القديمة التي لا تواكب عصرنا وحاجاتنا في أغلبها؛ تعبر في معظمها عن ثقافة البدو أو ثقافة المجتمع العباسي الحربي كحد أقصى.
وعليه، لابد من “ثورة” في اللغة حتى تواكب عصرنا وتعبر عنه وعنا، بتعليم مبادئ البلاغة العقلية المقيدة بالمنطق بدلا من مبادئ البلاغة العاطفية، حيث التشبيه والمجاز والاستعارة ذات المعنى الملتبس؛ ذلك أن اللغة الحسنة، كما يعتبرها سلامة، هي التي نحس ونحن نعبر بها بالسيادة المنطقية على كلامها، و”تتيح لنا التفكير المنطقي كما لو كانت كلماتها أرقاما تؤدي لنا الحساب الذي لا يحمل حاصل الجمع أو الطرح فيه معنى الشك.”[3]
فـ سلامة موسى إذن قد ذهب بعيدا في “الإصلاح اللغوي” ولم يقتصر فقط على ترقيعات هنا وهناك باستيراد كلمات أجنبية (علمية خصوصا، مع إبقائها على اسمها دون تعريب) أو على حذف مترادفات وقواعد من اللغة (منها دعوته لإلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات) وإن كان قد نادى بذلك كمسألة ضرورية وملحة، إلا أنها لا تعدو أن تكون مرحلة انتقالية قبل أن تبلغ اللغة كمالها كلغة الأرقام.
نجده يسوق عن درجة الارتقاء المنشودة مثالين اثنين: عن الذكاء والحرارة، وكلاهما نسبيان حسب المعيار أو الشخص:
“بدلا من أن نقول هذا الصبي ذكي، نقول: يبلغ ذكاء هذا الصبي 115، وبدل أن نقول: كان يوم أمس حارا مرهقا، نقول: بلغت الدرجة المئوية للحرارة 39”. [4]
فتتحقق بذلك الدقة التي ينشدها سلامة، ويستحيل معها اللبس.
غير أن هذا المقام لم تبلغه لغة من اللغات الطبيعية بعد، كما يعترف سلامة موسى نفسه، بل تتدرج فيها مراتب فقط، ولغتنا العربية أكثر بعدا وأدنى درجة لكثرة المترادفات والزخارف فيها حتى اختلاط المعنى، تستهدف العبارة الجميلة أكثر مما تستهدف العبارة الناجعة.
يبقى السؤال إذن عن كيفية الانتقال من لبس اللغة الطبيعة إلى دقة اللغة الصورية ؟!
سلامة موسى والانتقال من لبس اللغة الطبيعية إلى دقة اللغة الصورية
الواقع أن سلامة موسى لم يقدم دليلا نسترشد به أو منهجا كاملا يمكن اتباعه، كل ما هنالك أن قدم توجيهات ونصائح للاسترشاد بها، تهم في معظمها الأدباء-الكتاب والمعلمون الذين أناط لهم مهمة تلقين مبادئ هذه البلاغة الجديدة للجيل الناشئ.
وذلك بتعليم مبادئ البلاغة العقلية المقيدة بالمنطق بدلا من مبادئ البلاغة القديمة. أيضا، “محاسبة التلميذ في إنشائه على الكلمة الزائدة كما نحاسبه على الخطأ الذي يقع فيه حين يرفع مفعولا أو ينصب فاعلا.”[5]
على أن هذه الغاية النهائية المنشودة، بالطبع، لا يمكن بلوغها بقفزة، ولا أظننا ببالغيها بحال حتى لو تدرجنا.
إن كون المرء إنسانا يعني بالأساس، من بين ما يعنيه، كونه ذا إحساس وعاطفة.
وإذا كانت للغة، كما في دورها الكلاسيكي، وظيفة التعبير والتأثير في الآخر، فإن التعبير عن مكنونات النفس لا يمكن أن تسعه أية لغة صورية مقولبة؛ ذلك أنه حتى بتوظيف اللغة الطبيعية، الفضفاضة، ذات التنظيم والدقة المحدودين، نظل، ومعه القلم كما في المثل الشائع، عاجزين عن التعبير عن مكنونات صدرنا وعن حقيقة ما تخفيه سرائرنا، فكيف بلغة مقولبة تفرض التعبير بأنماط محسوبة ومحددة تصاغ مشاعرنا وفقها؟
هذا إن نحن اقتصرنا على مسألة التعبير (أي باعتبار اللغة قنطرة بين طرفين) دون غيرها.
وواضح كون الأمر يتعدى ذلك، لاسيما في علاقتها بالفكر، حيت تعمل اللغة، لا على نقل أفكارنا أو حتى كأداة للتفكير فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى صياغة فكرنا.
وإن شئنا استعمال تعبير الجابري قلنا إن اللغة هي أيضا، بمعنى ما من المعاني: “القالب الذي تفصل المعرفة على أساسه.”[6]
فهي، خلافا للاعتقاد السائد قديما حول وظيفة اللغة[7]، ليست حبيسة الدور الأداتي بين طرفين، بل تتعداه لصياغة معرفة متكلميها ونظرتهم للعالم؛ وذلك بتخزينها لعناصر الصواب والخطأ لتنتقل من جيل لآخر بعده، فتحدد بذلك معاييرهم في الحق وفي الجمال والخير. أي أننا “لايمكن أن ندرك الحقيقة أو نحس بالجمال أو نتعلق بالفضيلة إلا بنفس المعنى وبنفس المحتوى وبنفس الشكل الذي تنقل اللغة –لغتنا نحن- هذه القيم إلينا.”[8]
ومن البديهي أن لغة صورية، كلغة الرياضيات أو المنطق مثلا، لا يمكنها بحال أن تحمل أية معايير للخير والشر.
نعم، قد تسعفنا في التمييز بين الخاطئ والصائب بصفة قطعية (سواء بمعيار الوسيلة أو بمعيار الغنم)، غير أنه إذا تعلق الأمر بقيم نسبية كالخير أو الشر ستظل عاجزة عن الفصل، لكونها –في نسبيتها– فوق كل تحديد منطقي أو عقلي (يمكن اعتبار الأمر الأخلاقي عند إيمانويل كانط مثالا عن هذه العقلنة الشكلية المغرقة التي سرعان ما تؤدي بصاحبها لمفارقات ذاتية-داخلية وموضوعية-خارجية ).
وغني عن البيان القول إن كل صائب صحيح لا ينبغي بالضرورة أن يكون خيرا، كما ليس بالضرورة كون كل خطأ أو لا معقول شرا.
فـ اللغة الصورية – بطبيعتها – لغة جامدة، محايدة، تصيب الهدف، أو المعنى، بدقة دونما مراعاة للنتيجة التي قد لا تكون دائما مكسبا أو التي قد تتعارض معه وفق ما يقتضيه الظرف الذي يفرض نفسه على كل مبدأ سابق.
عودا على بدء، ماذا بشأن الخطاب القانوني[9]؟
هل بالإمكان جعله هو الآخر صوريا بحيث ينتج عن التقاء حالة وأخرى مصاحبة حكما أو مركزا دقيقا ومحددا؟
الأساس في الخطاب القانوني (بالمعنى الذي حددناه في الهامش، أي بمعنى الخطاب التشريعي) هو التطبيق لا النظر.
إن الخطاب القانوني، سواء بصيغته المباشرة أو المضمنة، غايته، كمبدأ عام، التنفيذ والتنزيل لا الإخبار أو الإعلام. فصدور نص تشريعي يعني إنشاء واقع جديد؛ قول المشرع: لا يجوز الرجوع في الوعد بجائزة بعد الشروع في تنفيذ الفعل الموعود بالجائزة من أجله.”[10] ليس وصفا أو تقريرا، بل هو إنشاء لفعل ولواقع جديد: إلزام تنفيذ الوعد بعد الشروع في تنفيذ الفعل المشترط.
وهكذا فالقانون غايته التطبيق على واقع متحول ومتحرك، سواء بالتعديل أو بإلغاء وضع سابق أو بإنشاء لواقع (مركز) جديد.
وما دامت تلك غاية القانون، لا وصف الواقع أو الإخبار عنه، فلا يمكن بحال صياغة نص صوري ثابت غير حامل لأوجه تكيف وفق نازلة الحال.
لا يمكن للصياغة أن تكون دائما: واقعة + واقعة أو شخص = عددا من أرقام السجن أو الحبس، أو مركزا قانونيا قد لا يكون زجرا بالضرورة.
وإن أمكن ذلك في الحالات الوصفية أو الخبرية، أي في حالة المنطوقات التقريرية التي قد نكتفي بتطبيق معيار الصدق والكذب عليها، بل وحتى في المثال السابق، حيث اللفظ المباشر والواقع الظاهر، فإن ذلك يختلف في الحالات المقرونة بنية الفاعل، ظروف التشديد والتخفيف، حالات الضبط أو التأديب… وهي في مجملها رهينة بظروف ارتكاب الفعل التي لا يمكنها الاتساق دائما على نحو واحد.
وهو ما يستلزم مرونة النص وتكييفه من قبل منزله (القاضي) ومؤوله (المحامي).
فالنص ثابت جامد والواقع متحول متغير، وما يجعل النص منطبقا على أكثر من حال (إذا أخذنا بعين الاعتبار البطء الشديد في تغيير النصوص القانونية) هو المتعاملون معه/به، وإمكانية التأويل والحمل على أكثر من معنى، دون أن تكون إمكانية التأويل هذه مشرعة الأبواب كليا، أو تكون على حساب إرادة المشرع ومقصده.
وحتى لا نطيل في مسألة غدت واضحة، نختم بالقول إن اللغة الصورية، كما تبين، وإن كانت تتسم بالحصر والدقة، ستظل عاجزة عن استيعاب الواقع المتحرك، وعن استيعاب الإنسان شعورا وفكرا وخطابا، اللهم إذا استثنينا مجالات محددة حصرا.
الهوامش
[1] تبدو فكرة ‘‘الملهم أحمد أمين‘‘ واضحة في إهداء الكتاب، وكذلك في بداية الفصل الخامس مفصلا. أنظر: البلاغة العصرية واللغة العربية، ط: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 33
2 البلاغة العصرية واللغة العربية، ط: مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة، ص 9.
3 المرجع نفسه، ص 49.
4 المرجع نفسه، ص 56.
5 المرجع نفسه، ص 46.
6 محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط : 12، ص: 77
7 يمكن اعتبار أرسطو مثالا عن الاتجاه السائد قديما حول وظيفة اللغة ( من خلال اشتغاله على الخطابة ) الممثلة أساسا في التأثير والإقناع، أو البحث عن سبل الإقناع (أنظر: الخطابة لأرسطو، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الرشيد للنشر، سلسلة الكتب المترجمة (14)، 1980، ص 28) غير أن هذا الطرح قد تم تجاوزه خصوصا مع جون لانغشو اوستن ونظريته حول فعل الأشياء بالكلام، أو الحدث الكلامي، وكذلك مع الدراسات الحديثة حول دور اللغة.
8 محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط: 12، ص: 77.
9 يمكن تصنيف الخطاب القانوني، بمعيار المصدر والوظيفة، إلى ثلاثة أصناف: الخطاب التشريعي، الخطاب القضائي، خطاب العلوم القانونية. ونحن باستعمالنا هنا للخطاب القانوني نقصد به الخطاب التشريعي تحديدا. للمزيد حول مفهوم الخطاب القانوني، ينظر: اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني- قراءة استكشافية للتفكير التداولي عند القانونيين، مرتضى جبار كاظم، منشورات ضفاف، دار الأمان-الرباط، دار ومكتبة عدنان، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى 2015، ص: 33
10 الفصل 16 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
عن الكاتب: محمد التايك، طالب في جامعة ابن زهر-أكادير (المغرب)، وحاصل على شهادة الإجازة في القانون العام.