حلم الموت البطيء

كان أول يوم لي في هذا العمل، عندما دخل الرجل وسألني عن أحد الزملاء، ناديته له، وبدا لي أنه يعرفه جيداً من خلال الحديث الذي دار بينهما.. بعد خروج الرجل، قال لي زميلي:

– “سترى هذا الرجل كثيراً.. ابنته تحتاج إلى نقل الدم بشكل متكرر… وربما هي الحالة الأكثر استهلاكاً ببنك الدم”.

– عافاها الله!..

– “الرجل مسكين.. لكنه ثرثار، ثرثار جداً.. بالرغم أننا متعاونون معه إلى أبعد الحدود.. لكنها طبيعته”..

– ربما بسبب الضيق..

– لا لا..، هي طبيعة.. ابنته المريضة ليست كذلك.. وكان لها أخت توفت منذ مدة قصيرة ليست مثله أيضاً.. أما هو فكثير الكلام والشكوى والتذمر.. ستفهم لاحقاً قصدي..

بعد عدة أيام، دخل الرجل نفسه بصحبة بنت، عرفت أنها ابنته المريضة “ريما”:؛ فتاة في الثلاثين من عمرها، ذات طول فارع وجسم قويم، عينان خضراوان وبشرة صافية لا يكدرها سوى شحوب المرض، جريئة بصوت خافت، يزينه الأدب والاحترام.

كانت زياراتها للمركز متقطعة حسب حاجتها للدم، ولنكون أكثر دقة، دعونا نقول حسب حاجتها للبلازما، فهي مريضة ناعور..

في أغلب الأحيان كان أبوها يأتي لوحده، ويكثر ثرثرته عن إلحاحها عليه لإحضار البلازما، وأنه مرغم على زيارتنا، ويتمنى الخلاص منها في أقرب وقت:

– “والله عجزتني.. كل كم يوم بدها اجي آخذلها.. بقول لها يعني هما ما عندهم غيرك.. يعني..”

قاطعه الزميل: “كفى كفى يارجل.. هل منعناه عنك.. هل طلبنا منك متبرعين؟!.. انتظر قليلاً خارجاً حتى نجهزها..

في كل مرة كانت تحضر معه، كنت أشعر أنها تحاول الاعتذار عن أسلوب أبيها، فما إن يبدأ كلامه وشكواه، حتى تبدي ابتسامة من لا حول له على تغيير طبع جُبل الرجل عليه.

في المرة الأخيرة، حضرت ريما مع والدها، وبدل السلام ألقى علينا الآتي:

– “هذه المرة أحضرتها معي.. أنا مليت وأنا أطلب.. صرت أستحي منكم.. سأدعها تتفاهم معكم… ماعاد…”

– “حسناً… حسناً كما تريد.. نحن سنتفاهم معها.. أهلاً وسهلاً ريما، كم طلب الدكتور هذه المرة؟”

– أربع وحدات إذا كان بالإمكان.

– حسناً، أدخلي للمشفى لفتح وريد ريثما يتم تجهيزها وتسجيلها.

– ألا أستطيع نقلها في البيت؟!

– بالتأكيد لا.. إما كالعادة في هذه المشفى، أو في أقرب مشفى بالنسبة لك..

– “من شو خايف.. هاي ما بتموت.. موتت الدكتور وموتت أختها.. وما ماتت”..

– لماذا لا تترك البنت وشأنها… ألا يكفيها ما بها؟!

حاولت ريما التخفيف من حدة كلام والدها، وربما لم يعجبها ٱن يشفق أحدٌ عليها، فتوجهت لي:

– “لو رأيتَ كيف أدخلت الدكتور إلى العملية.. هو يقول لي العملية خطيرة عليك.. أفضل أن لا نجريها.. وأنا أتوسله وأجرّه من يده إلى غرفة العمليات.. وأخيراً وافق وعملها رحمه الله.. والحمدلله نجحت..!”

كانت تتحدث بنبرة المنتصر على الموت، بل المنتصر على كل شيء، كانت ملامحها وهي تتحدث تشي بشيء من الفخر والفرح والأمل، وشيء من الألم أيضاً.

لم يكن بوسعي حينها أن أسألها عن ماهية العملية ولا عن الدكتور المرحوم، كنت أجاهد عيني أن تحتفظ بدمعتها حتى تغادر فقط..!

– الحمدلله.

اقتحم والدها الحديث من جديد:

– سمعت.. هاي ما بتموت.. قلت لك موتت أختها والدكتور وما كانت تموت..خليها تأخذهن بالبيت.. إذا ماتت برتاح.. وأنا مسامحكم من الآن!

هنا انفجرت به:

– أراحها الله منك يا رجل.. أخرج.. أخرج من هنا..

تمتم بكلمات غير مفهومة وخرج.

وضعت قِرَبَ البلازما في كيس وقدمتها لها:

– تفضلي.. النقل سيتم في المشفى كما اتفقنا.

– الله يعطيكم العافية.. أنا بعرف أنو أبي بعذبكم كثير .. بس مو دائماً بقدر آجي معه.. لا تآخذونا أمانة..

– نعذرك.. ولا داعي لهذا الكلام.. شفاك الله..

كانت هذه الزيارة قبل أسبوع تقريباً.

في هذا الصباح سمعنا خبر وصول ريما إلى المشفى، ولكن على غير العادة، لم تكن بحاجة البلازما هذه المرة، ولم يزر أبوها بنك الدم لطلبها، في الحقيقة لم يكن قادراً على ذلك أصلاً..

في الطريق إلينا اليوم، تلقت السيارة التي يستقلونها قذيفة -يقال إنها- مجهولة المصدر، توفت على إثرها الفتاة وأصيب أبوها بجروح بليغة..!

آآآهٍ أيها القدر كيف تختار..؟!

لم يكن خبر وفاتها سيفاجئ أحداً، لو أن المرض فعل فعله وتوفت.

لكن أي قدر هذا.. أي قاتل أنت الذي اخترت ريما.. لو تعلم كم قاتلت لتعيش..؟!

كم معركة خاضت أشد وطئاً من كل التي خضتَ أو ستخوض..؟!

هكذا.. وبهذه السهولة.. تدع المرض يفلت من الجريمة.. بعد كل عذابات السنين التي سببها..؟!

هل قاومته ريما كل هذه السنين لتلقى حتفها بهذا الشكل..؟!

كنت أتخيل أني -يوماً ما- سأسمع خبراً بمعجزة شفائها من الناعور، أو أن تتحسن حالتها ولا تعد تحتاج لهذه الكميات من البلازما.

ما لم أتوقعه قط، أن تموت ريما ولا تعلم من قاتلها، أن تكون ضحية حرب ليست طرفاً فيها، وهي التي انتصرت في كل المعارك التي خاضتها، أو كادت، لولا قدر المرض..!

أي جبان متوارٍ أنت أيها القاتل..؟!

أسئلة كثيرة يضيق بها صدري، لا أجد لها تفسيراً، ولا أنتظر من يجيب.. لكن هل سمع أبوها بنبأ وفاتها.. هل فرح بما كان ينتظر..؟!

صراحة لا أدري إن كان يستطيع ذلك أصلاً.. أن يسمع أو يفرح.. ولا أدري بعد إن كان بحاجة للدم أو البلازما نفسها التي كان يستثقل طلبها لابنته..!

في الحقيقة لا أعلم عنه شيء، وربما لن أحاول..!

كل ما أعرفه وأؤمن به الآن: كان على الحرب أن تكون أرحم من أن تقتل أحلام الموت البطيء لدى ريما.. أَو أقل من أن يحلم المرء بالموت..؟!

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version