حاولت مِرارا إنهاء روعة كولن ولسون “اللامنتمي” وفي كل مرة تبوء محاولاتي بالفشَل، فكرة الكتاب جِد مختلفة وهذا الكتاب ينثر ذاتي أمامي بتخبطها وبجهلها وبمحاولاتها المُضنية للفهم ولا أتحمل تكرار ذلك، في كل مرة أعزم فيها على إنهائه، تصادف مراحل فكرية مُشتتة من الأساس، فأكُف عنه في محاولة للهدوء وما هي سوى وسيلة للهرب.
حينما وجدت نفسي في بحث عن الحق الخالص من كل الشوائب، الخالص من نفوسنا وذرائعنا، بعيداً تمام البُعد عن أهوائِنا التي نُلبسها ثوب الحق زيفاً، هارباً من الذوات والأشخاص وحيداً وجميلاً هذا الحق.. وجدت أن تعويم الفكرة وسوء خُلق حامليها قد تصل بالمرء أن يكره كل ما يوصف بالحق خاصة لو كان إمعة ومفتقداً للإنصاف، ولم أتحدث عن جماعات أو فصائل أو أحزاب بعينها؛ إذ أن الفِكر أشمل لكل هذا ولا يُستثنى أحد كونه سبباً نحو مُفترق الطُرق هذا.
على المرء أن يعتزل كل ذلك حيناً، ليبتعد عن كونه مُصنفاً أو مُنتمياً وليكُف عن أخذ الحق من أفواه الناس وليكُف عن محاباة الأشخاص، ها نحن كل يوم نتفاخر حد السماء بالنماذج التي تطفو على القمة، نصنع منهم أبطالاً من أحلامنا ونُسقط عليها أحكامنا الخاصة، فإذ بهذا الفلان يتساقط رويداً رويداً حتى نكتشف أنه مجرد زيف صنعناه بأوهامنا.. وبِتنا نتصرف بغير موضوعية تجاه الأشخاص والرموز حتى أودت بنا نحو مكب النفايات!
لا أدرى ما الذى مررنا به فى خضم كل تلك الأحداث فيما مررنا به من ربيع عربي أصبح خريفاً عاصفاً في نهاية الأمر؛ فغيرنا مركزية الأشياء من الأفكار والمُعتقدات تجاه الأفراد، فصِرنا نصنع آلهة ننتظر منها إشارة كوننا عرائس ماريونت يقلبها السادة كيفما شاؤوا!
قد يجد المرء نفسه وحيداً للغاية لكنه سيرى كل شيء بوضوح تام، وحين يدرك جُرم ما يفعل به سيشعر بمرارة سوف تطغى على كل ما فيه للحظات طويلة، مرارة لِما نفعل باسم الحق والعدل والحقيقة وهم مما نفعل بريئون براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
صِرت مؤمنة إيمانياً كُلياً بأن من ينتمي لأى شيء هنا ولو كانت مجرد فكرة، هو في محاولة لتحقيق ذاته أو إيجادها، أما أنا ذات الثانية والعشرين ففي منطقة متنازعة بين الحق والباطل قد نُسميها تجاوزاً “اللامُنتمي”، تبعثرت بين هذا وذاك واستهوني الأمر، فإن فكرة جليلة كالانتماء تتطلب إيماناً قوياً بها وتضحية قبل أي شيء، وإني للآن وبعد كل ما حدث وكل من تساقط، والأصنام التى نصنعها ونجدها خاوية في النهاية، لم أجد ما يستدعي أن يفنى المرء فيها إيماناً وحُباً وبذلاً وتضحية، اللهم إلا كوني مُسلِمة..
وفي النهاية تبقى حقيقة واضحة أمامنا بأن كل الحق الذي نزعُم هو حق مُلتبِس به باطل قد يكون في ثوب حق شخصي لبعض الأفراد، أستاذنا علي شريعتي يصف حالنا تماماً فيما يقول:
“الطريق المُمتد من المستنقع إلى رب الأرباب يسمى “مذهباً”… من الواضح هنا أن المذهب يعني الطريق، فالمذهب ليس هدفاً إذن، إنما طريق ووسيلة، جميع الكوارث التي حلت بالمجتمعات المتمذهبة أن المذهب تغيرت روحه ووجهته، وتغيرت في نهاية المطاف مهمته فاصبح هدفا بحد ذاته. “
لذلك فإن مُهمة الفرد منا أن يبني لنفسه وعياً فردياً، باحثاً في كل الأماكن والطرق لو تطلب الأمر ذلك، لعل يوماً ما تتبدد الغيوم عن المشهد الكُليّ وينعم بالرؤية، ليجد طريقه جامعاً من هذا وذاك غير تارك ما يؤمن به لأجل ما يلوثه، لأنه كان ما يؤمن به وما سيحاسب عليه بين يدي ربه وفقط.