العلوم الحقة وغير الحقة، رغم تطورها لم تصل بعد إلى حقيقة الإنسان وعمق جوهره!..
بل لم تستطع فك طلاسم هشاشة مشاعره وخنوعه لسلطة الحب ومغناطيس العشق..
ولا كيف يمتاح من معين الوله ما يغسل عن وجهه غبار جبروت الإنسان نفسه، ولا كيف يرسم الحب خارطة تخرجه من معمعان الحياة الواسع وضوضاء صخبها إلى دير صغير يعتكف به كصوفي في خلوته مرتلاً آي العشق، ويشطع على دقات قلب مضطربة، تذكي جذوة اضطرابها ذكريات ليست كالذكريات..
فما أن يلقي الليل ظلاله على الدنيا، ويغرس خطاطيفه في جسد النهار، حتى يستحيل الظلام إلى لص يترصد هدوئي، ويفترس سكوني بوحشية ليبعثره بفوضى على جنبات الذكرى المعتقة في سراديب العقل..
ويشعل فتيل الغياب الذي صحر القلب فأمسى شبيهاً بأرض جوفاء، هجرتها نوء المطر فجف نباتها كما جفت ورود في عمق شرايني..
وكلما توسدت الذكريات على أرائك الشوق، اتكأ الحنين على زند الشوق؛ وطأطأ رأسه كذؤابة شمعة تلفظ آخر أنفاس نورها ليواري دموعا رقراقة على الوجنتين، دموع زجاجية تتلألأ وتنسكب كأن سحابة مغدقة إنفتحت له أردانها بما تحمله من ماء فأغرقته..
أريد أن أبحر في بحر حبك بكتاباتي،وتكون حروفي قاربا ينخر عباب الغياب للوصول إلى مرفأ عينيك..
وما همني إن تكسر على صخوره، بقدر ما يهمني وصوله إلى الهناك، حيث أنت!..
تحملني إليك الكلمات في لحظات الغسق، كنجمة هاربة، مسافرة لأحضان البحر وليل الغرام، فيهطل حبك على بساط قلبي كغيث السماء..
وعند الشفق، تحمل جدائل الشمس حجاب الليل، وتعزف العصافير على أوتار حناجرها أغاريد قصة حب تنعش الروح، وتبث الشوق صباحا عبر بريد النسيم في كل الأفق..
ها أنا ذي غارقة في مياه عشقك العميقة، تجرفني شلالات حبك الآسر، أصارع موجات غرامك، محاولة أن أطفو داخلك، وأشرب من بحر عاطفتك حد الثمالة..
تتلاطمني زخات أنفاسك الدافئة والمتوهجة فتحرقني، فأسقط مجدداً في داخلك كفراشة واهنة، مخافة السقوط من قمّة الحب الذي لا نجاة منه، فنحن نصعد بمشاعرنا حبواً على خيط رفيع يتأرجح مع عواصف الحياة، لنمضي برفق ونتحاشى الإلتفات حرصاً على توازننا..
مجنوني.. لقد كنت قبلك كجذع خشن لشجرة منسية، فخرجت من بين مفاصله غصناً أخضراً من حيث لا يدري، وها هو يناغي سمرة محياك لتسقيه قبل أن يخشوشن شوقا..
وصارت تؤلمني كل الأماكن التي نقشت على جدرانها لحظات مسروقة في غفلة البعد، ويوجعني ذلك الإحساس الغريب بالمكان، ربما هو إحساس بروح الإنسان الذي بصم على المكان شيئا غامضة ماهيته كروح الإنسان نفسها، وربما هي لعنة الشوق تطاردني في الأمكنة تلك..
فيا أيها الأنا التي تسكنني وأسكنها.. أما آن أن تخرج بعنفوان من قمقم غيابك، وتكمل ما ينقصني منك بلقاء ثوري، ينتفض نكاية في همجية الغياب، وينتشر عطرك في أوردتي العطاش، لتنشط الأزهار في حياتي العابسة..
آه كم هو جميل أن يكون موعد اللقاء سوناتا موسيقية تكتب على سطور المواعيد، ويعزف لحناً تتوه شرايين الجسد على نوتاتها، فتغدو بسمتك مقام فرح ووداعك مقام صبا، وبينهما العجم والنهاوند يشدوان الحزن والفرح والحنين معاً..
وإذا ماجن الليل كان همسك سيكاه.. وصار كموسيقى رسمتها الطبيعة بفرشات ألحان تحفظ سر الأشياء وخلجاتها، تختلط بإيقاع حنجرتك لتعطي عزفا “متكاملا” يطرب الروح ويجعلها تتراقص نشوانة كأوراق الشجر، يقبلها مطر الخريف فتهوي مع النسمات حيث أكوام الأوراق قد خلفت ألحانا لمن تاهوا على طرقات الألم، وتوسدوا أوجاعهم وأفترشوا أحلامهم صامتين متألمين، ومتأملين زمنا تعيش فيه الأرواح داخل كل مقطوعة موسيقية بنقاء وقدسية لا تعارك فيها الكدر..
كاتبة التدوينة: السالكة الغزاري