في صغري وطفولتي، لم أكن أعرف “الله“، ما علمتنا إياه المدارس والمجتمعات يقتصر على أن الله خلقنا مسلمين وأننا محظوظون لذلك، نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
كما يرتكز النظام التعليمي والتربوي على أنه علينا أن نقوم بهذه الواجبات والفرائض وإلا فمصيرنا النار، وإن قمنا بها على أكمل وجه فقط فسندخل الجنة.
علمونا إياها خالية من جوهرها، خالية من أية مشاعر تحركنا لأدائها كما كان يجب فعلاً أن تكون، فأصبحنا نفكر فقط إن لم نفعلها فالنار في انتظارنا، لدرجة أني كنت أقول لنفسي كيف سأدخل الجنة؛ فقد كنت مقصِّرة في أداء صلواتي ولم أكن ملتزمة بها!
وبمجرد التفكير في ذلك، أموت رعباً من الله الذي سيدخلني النار لا محالة، لم أكن أتذكر وقتها أن رحمته تسبق عذابه، كان كل ما يدور بذهني هو نار جهنم باسمها المخيف، ومقولة “الصلاة عماد الدين” دون أن أعرف لما وكيف هي كذلك؟ وأن أول ما نحاسب عليه هو الصلاة فإن صَلُحَت فقد نجوتَ، وإلا فلا داعي لأن يُنظر في باقي أعمالك.
وكانت تمر بي الأيام وأنا أعتصر ألماً لما سيحدث لي وضميري يؤنبني، ودموعي تنهمر ليلاً؛ لأني لا أعرف كيف سأحافظ عليها؟ كيف سأحبها؟ كيف سأحب الصلاة وأنا أخاف ممن أمرنا بها ولا أتخيله إلا غاضباً منا يلقي بنا في النار، وأتساءل: كيف استطاع من يحافظ على الصلاة الحفاظ عليها، ولم أنا لا؟!
ومرت السنون.. وجاء اليوم الذي أخبرت فيه أمي بأني أريد أن أرتدي الحجاب، كنت أدرس وقتها في السنة الثانية متوسط على ما أعتقد، ولم أكن قد بلغت السن التي يصبح بعدها الحجاب مفروضاً علينا بطريقة الصلاة نفسها.
كانت رغبتي في ذلك نظراً لحلم أو منام رأيت فيه نفسي محجبة (مع العلم، في حياتي كلها لا أذكر نفسي أرى مناماً غير اثنين منهم وتحققا).
أخبرت أمي فاستغربت قليلاً، ربما لأنه لم يسبق لها أن حدثتنا عن الأمر ولا كان من بين دروسنا التي درسناها في التربية الإسلامية (والحمد لله على ذلك، لربما كنت لم أتخذ هذا القرار).
أمي ترددت قليلاً ولم تجبني، وبقيت مصرّة عليها، لكني أحسست من أسئلتها كأنها خائفة من أني غير واعية لما أقول وبعد مدة سأغير رأيي (وربما كنت كذلك)! لكن القرار كان مؤكداً بعد إعادة رؤيتي للمنام نفسه في المرة الثانية والثالثة، وأخبرتها بذلك فقالت: “حسناً سترتدينه في عاشوراء”. وكانت أيام قليلة تفصلنا عنه، كما تزامن ذلك مع سن بلوغي بترتيب غريب!
ومرت سنون أخرى وما أزال طبعاً خائفة من النار، فأنا لا أقوم إلا بما سيؤدي بي إليها، لكني أنسى ذلك في أحيان كثيرة وأنشغل بالدنيا وباللعب والدراسة وكل ما كان يلهيني عن معرفة حقيقة الله. وأتذكرها في أحيان قليلة ويعاد شريط الخوف والتأنيب في ذهني، مع أنهم علمونا أيضاً أن الله غفور رحيم، لكن كانت صفة الله شديد العقاب الغالبة دائماً، فكان العقاب في ذهني أكبر من المغفرة والرحمة، حتى إنهم لا يدعوننا نهنأ بالله غفور رحيم إلا واتبعوها بأن الله شديد العقاب بعدها مباشرة وعادة لا يحدث العكس.
وفي سنة البكالوريا الأولى، قررت أنه بعد كل صلاة أصليها أدعو الله أن يثبتني على أداء الصلوات الخمس في وقتها دون انقطاع؛ فقد كانت أكبرَ همومي (وكنت أقول له في كل مرة: يا الله، أنا فعلاً لا أعرف لماذا أفعل ذلك!).
وأحاول الحفاظ على هذا الدعاء مهما يحدث ومهما كنت مقصرة، ومهما كانت طريقة صلاتي صحيحة أم لا، بخشوع أو من دونه، مسرِعةَ أو متأنية، محافِظةً عليها أم لا، المهم ألا أنسى هذا الدعاء قبل السلام من الصلاة.
وبهذا الإلهام الإلهي تعرفت على عبادة الدعاء (التي غيرت كثيراً في مجرى حياتي ليومنا هذا).
أخدت البكالوريا بتقدير قريب من الجيد، لكن مجموعي لم يكن يؤهلني لدخول تخصص الطب (ولي في هذا الجانب قصة أخرى)، وقررت بعدها أن أعيد في العام التالي التقدم للبكالوريا كطالبة حرة؛ لأرفع من مجموعي(معدلي).
وكانت في تلك السنة، التي قضيت أغلبها في البيت، التغيرات الجذرية في الأفكار وفي علاقتي به سبحانه، وكانت من بين أكثر السنوات التي قضيت فيها وقتاً مع نفسي؛ نظراً لعمل أمي وأبي وذهابهما لأداء مناسك الحج، وإخوتي يدرسون كلهم.
كانت البداية باتخاذي القرار بأن أحافظ على الصلاة مهما يحدث وأني أريد فعلاً ذلك، كان مصاحباً لهذا القرار بعض البرامج التي كنت أشاهدها والمقالات التي أقرأها على الإنترنت فبدأت بوادر استجابة الدعاء بالظهور، وكان مصاحباً لها شعورٌ قلبيٌّ مختلفٌ عن الخوف تماماً وأن الله غير مخيف لهذه الدرجة.
بل إن الله هو الحب كله.. وكنت ولا أزال مُمْتَنَّةً لله على تلك السنة في حياتي، كانت من أعظم الاكتشافات التي حدثت في حياتي كلها، وكل ما كان وما حدث وما تعلمته وما شعرت به في تلك السنة كان يوحي ببداية حياة جديدة بالنسبة لي، حياة فيها من الخوف القليل والحب الكثير؛ بل كان الخوف فيها هو عين الحب، خوف مشتق من حب.
ثم تأتي بعدها الاختبارات التي تختبر صدق هذا الحب وتصفّيه وتنقّيه من كل الشوائب التي ممكن أن تلتصق به وأنت في طريق السير إليه سبحانه، كما تعلِّمك في كل مرة درساً جديداً، معلومة جديدة وصفة جديدة من صفات الله وأسمائه الحسنى. وتخطئ وتصيب، وتسقط وتعيد النهوض، وتجتهد تارة وتتكاسل وتَفْتُر تارة أخرى، ويشتعل هذا الحب من جديد ويخمد مرة أخرى، وتبحث عن السبب وتسعى لاسترجاعه وكيفية الحفاظ عليه، وتستمر في هذه الذبذبات التي كلها خير لك وكلها نابعة من حبه سبحانه لنا.
ولهذا، فإن دورنا الأول الذي خُلِقنَا من أجله هو مَعرِفَته سبحانه وقد ترك لنا الله الحرية في ذلك، ترك لنا متعة الاكتشاف ولذة البحث عنه في كتابه الكريم، في كتب وقصص الآخريين وفي كل تفصيل بهذا الكون، في كل موقف يحدث لنا، في كل عمل نقوم به، في كل لقمة نأكلها، في كل عبادة نؤديها، وفي كل خطأ نقوم به، في كل معصية نرتكبها أيضاً، ما هي إلا دروس في طريق السير إليه.
دورنا الأول هو السعي لمعرفته سبحانه، ومن ثم السعي لأن نتَّصف بالصفات التي عرفناها عنه؛ لنكون خلائفه في الأرض، وأن نغرس في أولادنا حقيقة الله، أن نغرس في طفولتهم البريئة وقلوبهم الصغيرة بذرة حب الله، فمعرفة الله عن طريق الحب أشد رسوخاً وأكثر تأثيراً وأقل تعذيباً وأشد تحفيزاً وأكثر ثباتاً عند الأزمات، وأقوى الطرق في الالتزام والسير اليه سبحانه.
خَلَقَنَا لِنعرِفَهُ فَنُحِبَهُ فَنَعبُدَهُ بكل صور العبادات.
كاتب التدوينة: آمنة بن عياش