جرت العادة أن تكون ذكرى المولد النبوي الشريف بين أحضان كلتا عائلتي الصغيرة والكبيرة، هناك حيث يختلف الطعم وتتوحد اﻷذواق في لمة عائلية واحدة ووحيدة.
فجر الصباح عودت خطى أبي السلسة مسمعي، سماعها بتدقيق ورسم دندناتها بأمان فوق موجات التيك تاك التي تطلقها قدماه المكسوتين جواربا ثم نعلا إن صادفت الذكرى شتاء..
بينما أنا في خضم الإنصات، تصارع عيناي النوم ﻷجد نفسي بعد اﻻستيفاق أمام أبي وأمي بحلتيهما التقليديتين ملتفان حول مائدة الإفطار ينتظراني وأخوتي لكوني عهدت أن أكون العنصر المتأخر كي أؤدي صلاتي وألتحق باللمة لنلوذ بعدها نحو منزل جدتي التي تنتظرنا بفارغ الصبر نحن وأحفادها من جهتي اﻷبناء والبنات اﻷخريات..
عند مطلع الزقاق الذي تغمره الروائح الزكية لتهيمن على اﻷرجاء وتدخلني في دوامة بحث عن العبير الذي أستنشقه أنا وأخي الذي يصغرني عاما باقتراح تناوبي نحزر فيه من سيصيب الاستنشاق.. قبل أن ما ينفك كلانا مهروﻻ إلى أمي يسألها ما إذا كان على حق أم أن اﻵخر هو الذي كذلك..
ندخل إذن من باب نوستالجيا بعض ذكريات الطفولة التي عودتني أن ألجأ إليها كلما أخذني الحنينن إلى العفوية..
من ذات الباب أخطو فرحة تلو أبي على التو وعادة ما أطأ جلبابه فقدا مني للسيطرة على مشاعر الفرح التي تقودني حتى أنحني على ركبتي جدتي لتردد لي أمداح ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، التي حفظتها منذ عهدها وهي تداعب شعري حابكة تراتبية خصلاته هو بالذات ويداي بحكم أنها فقدت بصرها عشر سنوات من اﻵن، ومنذ ذلك الحين وحاسة لمسها هي عيناها في هذا الموقف أو كلما ارتميت في أحضانها التي تنسيني عبء بعض مواقف الحياة العسيرة.
لم تجر العادة أن أكون بعيدة عن هاته اﻷجواء لكنها حتمت اﻷمر علي هذه السنة بحكم الدراسة بعيدا عن مدينتي اﻷم، ﻻ صباح كالذي عهدته وﻻ مساء كذلك. لكن اﻻستثناء المخلوق كان في تلك الطقوس التي تقاسمناها كممثلي مدن ربوع الوطن بيننا في المرقد التابع ﻹقامة معهد تكويننا بطنجة في صباح هذه الذكرى الخالدة والتي ستظل حتى الفناء.
صباح اليوم وعلى صدى مديح هادئ تطرق بابي إحدى صديقاتي تدعوني لمشاركتها وجبة الفطور وباقي الصديقات اللواتي اقتسمت معهن نفس المصير في غرفتها التي تبعدني بأمتار قليلة.. ﻷستجيب لذلك وأكون العنصر الملتحق أخيرا كما أفعل في المنزل..
ونحن نأكل تجاذبنا أطراف الحديث عن العادات والتقاليد التي تهيمن على المناسبة في كل مدينة بحكم توزيعنا الجغرافي الذي تجمعه اﻷخوة قبل أي شيء هنا، حيث الكل للكل والبعض للبعض بين جدران المعهد الوطني للعمل الاجتماعي الذي نبدؤه تضامنا بيننا قبل أن نوسع قاعدته خارجا، حينما نندمج في سوق الشغل مستقبلا..
شيء ما فيَّ دعاني ﻷن أستحم ثم بعدها أقصد المطعم لتناول الكسكس..
هنالك انضمت إلى الطابور القصير صديقتي طالبة السنة الرابعة، بحوزتهما حاسوب يردد أمداحا نبوية عم صداها أرجاء المكان والكل في غفوة المعايدة منغمس حق اﻻنغماس على نغمات زغاريد الطباخات اللواتي ساهمن هن اﻷخريات بمعايدة من نوع آخر..
المديح ذاك أخذني للحظة التي أتكأ فيها على ركبة أبي حينما يلقي علينا محاضرة من سيرة نبوية يحق معرفتها بهذا الحدث بينما أكون في قمة تركيزي معه ومع متى أمده بالماء كلما احتاج أن يروي ظمأه ﻷني الوحيدة التي تدرك اللحظة التي يحتاجني فيها ﻷلبي النداء وكلي شوق ﻷن أخوض نقاشاتي معه كلما داهمني لبس أو إبهام..
أخذني إلى حيث اﻷضواء الخافتة التي تحل محلها الشموع في جو هادئ أكثر من سكون الليل وعطر المكان الذي يأخذ الذاكرة ﻷن تقف بخيالها على مشارف أحداث ﻻ تخرج عن ربط مقال أبي بها دون اﻻنزياح إلى مضمار ذكريات أخرى حتى وإن بدت مهمة، ﻷن الروح تلك اللحظة تكون قذ تشبعت بما تغذت منه من جميع الجوانب التي تحتاجها..
هنا في طنجة؛ المساء اختلف أيضا وقادني وأصدقائي إلى مقهى يُطل على البحر حيث اﻷضواء الكثيفة لكن دون جدوى، وفي عجز عن إثبات أضواء منزلنا التي تصغرها طاقة لكنها باتت تنير أرجاء المكان أكثر منها، ﻷستشف أن اﻷمر رهين فقط باﻹشعاع النفسي الذي ينعكس على حواسي في القرب من أمي ودفء أبي وفي البعد عنهما.
رواد المقهى ذاك المساء جلهم كانوا غارقين في الصمت والتأمل وكأنهم يوحون إلى موقف واحد عجز فيه الكل عن التعبير وأطلق العنان إلى شريط اﻷحداث التي ستمر نفس اللحظة في المنزل وهو يعانق الغربة ويخلق استثناءه بين اﻷحضان بالغياب..
هنا بعيدا عنك عائلتي، جدتي، أمي، أبي.. أفتقد كل شيء رغم كل شيء وألوذ إلى الهاتف فقط لأسمع تسجيلاتكما وأذرف دموعا خافتا كي ﻻ يصلكما صيتها وتنعما براحتي المزيفة التي يستحوذ عليها الحنين.
