أتذكّر.. أولى الغيمات البنفسجية التي حلقت فوق رأسي، أولى انطفاءاتي وأول ذوبان لشموع ذاكرتي..
أتذكر، أول قطار أقلّني إلى مدينة تنكرني وأنكرها كما أنكر نفسي..
أول مرة أدركت فيها أن الزمان يمكن أن ينحت على وجوه العابرين خطواته الأولى..
أتذكر أول خيط فجر عبر السماء وعُلّق على ذاكرتي كما تعلق القناديل..
أول غروب، أدركت فيه أن الليل سيقبض على ضلوعي والطفلة التي تسكنني فيهلكنا معا..
أول ليل..حام ملاك الحزن فيه فوق رأسي، أطفأ قناديلي ولمست العتمة غرفتي..
أول انتظار على عتبة محطات القطار للعابرين الذين مروا دون أن يتركوا لنا صورة تجمعنا بهم، نعود إليها كلّ مساء كما يعود الصّبح من غياهبِ الغسق..
أول مرة ينحت فيها المطر قطراته على زجاج الغرفة المعتمة..
أول ليلة يتناهى إلى مسامعي صوت أم كلثوم من ذاك الراديو القديم..
أول انكماشة لي على نفسي، أول ليلة أصبح فيها دودة تسمع حوار العناكب فوق صناديقٍ قديمة..
أول حكاية ترسمها أمي على ذاكرتي..
أول صورة غيمة أشكلها شبيهة بالقطن..
أتذكر أول مرة انتصر فيها على أمي لأنني أكلت قطع السكر دون علمها..
أول مرة ألمس فيها حبوب الكسكس التي تشبه الرمل في لينها..
أول مرة أشعر فيها أن الدنيا قد أمسكت براحتيّ وحلقت بي إلى الغيوم القطنية..
أول مرة تحلق فيها طائرتي الورقية بين تدرجات لون السماء الأزرق..
أول مرة أركض فيها باكية لأن طائرتي الفيروزية علقت بين عيدان القصب عند الوادي..
أول مرة اطعم فيها طير الحمام وأسمّيني حماما..
أول مرة أنظر فيها إلى عتمة البئر واكتشف أن السواد مغرٍ..
أول مرة أضع فيها الكوفية التي اشترتها لي أمي من سوق الحيّ..
أدركت حينها أن الوطن لا يقتصر على مساحة ترابية إنّما يمكن أن يقتصر على قطعة قماش تلفح الرقبة وتعطي لأجسادنا المنهكة بعض الأمان والدفء..
أتذكر أول مرة تعلمت فيها الكتابة على الحجر قصص الخيال وأبيات شعر حاولت حفظها..
أول مرة صفعني فيها مؤدب الحيّ لانني لم أتّبع السطر الذي وضعه على كرّاسي، وكتبت بخط مائلٍ، منعرج كالطريق الترابية التي تؤدي إلى كوخنا..
أول مرة صرخت فيها منتصرة على الفراغ، ناديت باسمي حتى أسمع صدى الحشرجة التي أصدرتها..
أول مرة أدركت فيها أسماء الشجر وحفظت معظمها عن ظهر قلب عوضَ أن أحفظ أنشودة المطر لامتحان المدرسة..
أول مرة أعود فيها إلى كوخنا وروحي تسبق قدماي..
كنت قد كتبت قصيدتي الأولى آنذاك..
أتذكر أول مرة صفعتني فيها جدتي لأنني فاشلة، ومن يكتب الشعر فهو زنديق كاذب، يتلاعب بالكلمات..
أول مرة أكتب فيها أبيات قيس بن الملوح على الجريدة الصباحية حتى لا تقرأها جدتي..
أول مرة أعود فيها منتشية بانتصاري لأنني كتبت أبياتا باتت تقتل حنجرتي على علبة سجائر أبي..
أول مرة أشعر فيها أن أبي سيساندني في إخفاء كتاباتي عن جدتي..
أول مرة أتعلم فيها حب السماء والشجر والأطفال..
أول مرة أحب فيها حيطان الجيران لأنني رسمت عليها نجوما صغيرة وغيوما..
أول مرة أخفي فيها عصافير السنونو في معطفي حتى لا تطردها جدتي..
أول صورة أنثر فيها ألوان الحياة وأرزقها روحا جديدة بعد موتها..
أول مرة أستنشق فيها روائح البخور والبارود وأوراق البردى التي وجدتها في المخازن..
أول مرة أجمع فيها الخزامى والإكليل والزعتر، أول مرة أصنع طوقا من الياسمين وأضعه على رؤوس الماعز الصغيرة..
أول مرة أختبئ فيها خوفا من جدتي، من الليل من معلمنا، واليوم من خوفي..
أتذكر، أصبحت اليوم أختبئ بين أكوام القش والتبن خوفا من خوفي، من كٱبتي، خوفا من خيباتي المتتالية..
خوفا من احتراقاتي، من غمامة الدخان الموحشة التي تتبعني..
خوفا من كلماتي التي حبست بين قضبان ضلوعي..
خوفا من عتمة البئر التي كنت لا أخشاها..
خوفا من السماء التي ضاقت بي وبهذه القرية..
خوفا من المدينة!
خوفا من حيطان الجيران التي أصبحت رسوماتها تلاحقني كالأشباح..
خوفا من رائحة الموت التي ملأت الارض..
خوفا من طائرتي الورقية التي ظلت تعانق عيدان القصب ولم تعد..
خوفا من حبال الأرجوحة التي أصبحت تشد على جسدي فتخنقني..
خوفا من تلك الأطياف الموحشة تلك العناكب التي صارت تسري على عنقي بدل الكوفية، صارت تحتل راحتي
لماذا تغير العالم، أيْ خليلي؟
كانت كل آمالنا معلقة على أرجوحة تعبر درب الغيوم، على نجمة تتحرك في السماء، على رغيفٍ طازج نجتمع كلّ مساء لناكله ونعود لركضنا ولعبنا، على طير يحط على ذراعينا..
لم تعد المدينة تليق بنا، ولا الأرض ولا العالم..
خذ براحتيّ ولنعبر درب الزمن، خلف هذه الجدران القديمة التي تكاد تنهار، وبين خناجر أصوات الراديو الذي أعلن بداية الحرب عند ضفاف الوادي..
فلنرحل كما رحل الحمام..
كما انطفأت ذاكرة الحمام..