رانافالــو

يراجع الفرد الإنساني ما يقوم به على فترات، يستعيد لحظاته التي غيرت مجاريه، يطرح الأسئلة كلها بشكل شامل، يعيد نفَسًا هاربا من خلاياه، يستعيد بعض ما يطرحه وما يطاره في جملة واحدة تفيد أجمل المشاعر وتصلب العقل جهارا على بوابة الواقع والمجاهيل، ثم يحاول الارتقاء كما فعلت ملِكة تلك الجزيرة الكبيرة والبعيدة، لتجد نفسها رهينة القوة والجبروت.

عندما تقف أمام ذاتك، ومهما حاولتَ يا صديقي فإنكَ لن تتمكن من بلوغ ما تريد كما تريد، مهما فعلت فإن في الأمر ما سيجعلكَ بعيدا للغاية عن ما ترغب فيه بالكيفية التي تشتهيها، لعلك تدرك بأنك تمثل لعنة الحياة السعيدة، ولكنك تتغابى! فترفع آهاتك عاليا كالآذان، أو كأصوات الأجراس القديمة على مسامع لا تسمعك، لتلاقي أغرب ما أمامك هو الحظ الذي حملته دوما بين جنباتك العتيقة.

السير على الطريق من أقدس المهمات يا صديقي فلا تكن غبيا في هذه النقطة أيضا، عليك أن تحارب من أجل الإبقاء على فرصة تجعلك تسير، تجعلك تحمل كلّ متاعبك والركض أحيانا نحو ملاجئك الغريبة، تلك التي تعرفها أنتَ دون سواك جيّدا، عليكَ أن تكون أنتَ يا صديقي، لأنّك الوحيد من لديه سلطة نفسه ومضامين حياته.

علينا الاستماع جيّدا لتلك الصرخة التي ولدت بين أحضان غرناطة ليصل صداها إلى جبال الأورال، وعلينا أن ندرك قبل ادراكنا للحياة، بأننا بشر، والبشرية هذه هي التي تحمل الفرد الإنساني على الانسلاخ من إنسانيته من أجل أن يكون إنسانا قادرا على العودة إلى الإنسانية حينما يسمع النداء، فلا يتأخر في تلبيته أبدا.

الحياة هي تلك القصة الحزينة التي نلفظها رغم أننا لا نستطيع تركها تغادرنا على الاطلاق، هي تلك اللازمة التي لابد منها بشكل أبدي يشتاق لنهايته.

من الغريب أن نولد على المحجة، وأن نحمل أذنابنا كالصقر يحمل فريسته، ثم نمضي غير مدركين لما نحن ماضون إليه، بعدما نحاول تفكيك ما نحن فيه عندما يغمرنا التعب وقلة الحيلة، فنشعر بالآلام تعصر أفئدتنا دون مبررات، بعدها نلجأ إلى الغربة الروحية السحيقة، فنضيع لأيام بين ما هو مؤلم وما هو مجهول، بعدها نحمل بقايا ذواتنا، ونقوم بإصلاح ما بقي منها لنكمل سيرنا على دروب آلامنا ونحن نبتسم.. أيّ مخلوق هذا؟ الذي يقوم بكلّ هذا؟

المسيرة التي يتحملها الإنسان تصعب على جميع الكائنات الأخرى، هي ليست سهلة على الاطلاق، لأنها تولّد بالداخل البشري نوعا من الإدراك الملتبس، فهي كشمعة بيد راهب في ليلة ظلماء، المراد منها إنارة ذاك الدهليز في غياهب تلك البناية الروحية التقليدية القديمة قِدَمَ الإنسان؛ بلا أسقف تمضي الحياة محررة الوحوش التي تسكننا منذ الولادة، تلك التي تعذبنا حينما نحاول رعايتها بتفاني منقطع النظير، فكلما زاد الولاء، زاد تأثير الصدمات على كل كبرياء.

سيسرقون أحلامك وهم باسمون مبتهجون بهذا “الإنجاز”، وسيقيمون الحفلات والسهرات لأنهم تمكنوا من تحطيم فؤادك، وسيكتبون قصائد الغزل عندما تسقط مدرجا بالدماء أمام أرجلهم التي يغلفونها بأحذية نتنة صنعت في أقبية كنائس العصور الوسطى، وسيشربون النبيذ ويمارسون كل الملذات ابتهاجا بعذابك يا صديقي!

تلك السادية التي تسكنهم يا صديقي هي مجهولة المصادر والأسباب، فلا تحمل همّ التساؤل عن منابعها، بل اعمل على دفع السقوط ذاك بكل ما تملكه من قوة، وإن ما وضعتَ أمام قدر السقوط، فلا تسقط أمامهم مدرّجا بتلك الدماء، فهي ستصنع فرحهم المريض بهم والممرض لهم؛ حاول أن ترضي صوتكَ العميق، وابتسم فبابتسامتكَ سيخسرون كل ما يريدون ايقاعه بكَ، احمل كل لفائف ثوبكَ النقيَ واسلك ذاك الطريق، الذي لم يتمنوه حتى في هذيانهم.. كن أنت فقط.

Exit mobile version