“… ينتهي المتحاورون إلى ستة صور مختلفة يمكن إطلاقها على السفسطائي (Le sophiste) وهي: أنه قناص وتاجر وبائع ومجادل ومعالج. وتدل الكلمات الأولى على معنى الانتزاع والسلب والأخذ…”.
هكذا عرّف “محمد جديدي” السفسطائي في كتابه “الفلسفة الإغريقية”، ونحن طلاب على مقاعد الدراسة، تمّ تلقيننا بأن السفسطائي هو إنسان انتهازي، يحمل بين طيات تصرفاته كافة مظاهر النفعية الذاتية، التي تجعله يبلغ ذروة الأنانية والتجرّد من مشاعر الإنسانية، وبسبب هذه الطائفة من المثقفين الإغريق، قُتل سقراط إثر مؤامرة حيكت له بدقة من طرفهم، بعدما أثار هذا الشيخ الوقور المحتكم إلى العقل مواضيع جعلت السفسطائيين يتهمونه بإفساد عقول الشباب، ونشر الخرافات بين مواطني أثينا، مما جعل سقراط يشرب السم تنفيذا لحكم الإعدام الصادر في حقه، واحتراما للقوانين بحضور جمع من تلاميذه ومحبيه، على رأسهم أفلاطون الذي بكى يومها وذرف دموعا حارة جدا.
بعد وفاة سقراط على محراب الحرية الفكرية أقسم أفلاطون أمام روحه الطاهر على الفتك بمعتقدات وأساليب السفسطائيين، فراح يحاورهم عبر محاوراته، وهذه العملية الجميلة والحركة البارعة وإن لم تكن كافية لإظهار مكر هؤلاء المثقفين، إلا أنها ثبّتت الخطاب، وأبعدت عنه الكثير من التزييف الآني الذي كان يسوده في زمن سقراط، مستغلا نفس الأسلوبي السقراطي في مواجهتهم، ذاك المعروف بالتهكم.
يعاني أفلاطون من استبداد السفسطة ويسقط ضحية لهم في آخر المطاف، ليجد نفسه عبدا يباع ويشترى في أسواق أفريقيا، ولولا فلسفته وأفكاره حول التربية لما تمت عملية إنقاذه من أحد متتبعيه والمعجبين به، ليعود إلى مدينة الأفكار ويعتزل الناس ليبني أكاديميته الشهيرة وتنتقل الفلسفة من أسواق أثينا إلى المؤسسة لأوّل مرة في التاريخ البشري الغربي، لأن الشرق كان متفوقا في هذا المجال وقتها خاصة مصر الفرعونية.
ثم يأتي أرسطو ويحاول مواجهة نفس الطائفة، أي السفسطة، فوجد الأسلوب من أجل القيام بذلك ألا وهو تركة سقراط، ووجد الوسيلة التي تؤدي به إلى ذلك ألا وهي الكتابة التي استخدمها أفلاطون، بقي أن يجد الخدعة ويكشفها ويحاربها بطريقته، وبينما هو يتمعّن في إبداعات السفسطائيين، إذ به يكتشف براعتهم في الخطابة واللعب على أوتار الحُجَج، مما جعله يكتشف سطوتهم على المعاني بتغيير التداخل والترابط بين الأفكار، إذ اكتشف أرسطو بأن السفسطائي أثناء حديثه يقوم بفك الارتباط بين الفكرة والفكر من جهة، ويعيد تشكيلها على حسب منفعته من الظرف الذي يُنشئها، وعند الحاجة يقوم السفسطائي بقلب الفكرة نفسها عبر فك ارتباطها مع الواقع من جهة أخرى ليرفعها نحو المجال الترنسندنتالي (المتعالي) فيعطيها بعد القداسة.
هذه الأبحاث التي قام بها أرسطو على مدى سنوات، ما بين التدريس والقراءة ومرافقة ألكسندر الأكبر، جعلته يكتشف الآلة التي ستعصم الفكر البشري عن هذه المغالطات التي تنتج عن عزل الفكرة إما عن سياقها الفكري أو الواقعي، فظهرت قواعد “المنطق”، وبه تمت مطابقة الفكر مع نفسه، ومطابقة الفكر مع الواقع، وبهذا قضى أرسطو على الزمن السفسطائي، ودخلت البشرية عصرا جديدا يومها من التفكير العقلاني.
لكن وكما يبدو أنّ زمن السفسطة وإن تمّ اندثاره منذ زمن أرسطو، إلاّ أنّ افكاره لا تزال تفعل فعلها على نطاق محدود في عالمنا اليوم، إذ في القرن العشرين ظهرت السفسطة من جديد في “نادي الميتافيزيقا” على الأراضي الأميركية، لكنها وجدت كامل جلال حضورها في الدعاية النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان إعلام الرايخ الثالث يعتمدها من أجل بث أيديولوجيته مستخدما إياها للوصول إلى ترسيخ سلطانه على العالم وقتئذ.
وجدت السفسطة أيضا مجالا يحتويها في الإمبراطوريات التقليدية عندما استخدمت خطابا سياسيا واجتماعيا مزدوجا أحدهما نحو مستعمراتها، والآخر متوجهة به نحو سكانها ومواطنيها، بنفس طريقة الإغريق، إذ كان السفسطائي يخاطب رجال السلطة يومها بشكل يختلف تماما عن خطابه الموجه للعساكر أو المواطنين الأحرار.
تجد اليوم السفسطائية حضورا واسع الانتشار لدى الغرب في سياساته “الداخلية والخارجية” ولدى دول العالم الثالث أيضا، بحيث أنّ الدول الشمولية تنتهج خطابا لا علاقة له بواقع الحال بالنسبة للمواطن البسيط، ولا علاقة له بالزمن الذي تخاطب فيه الجيل الذي يعيشه، ولا علاقة له بالمبادئ ولا القوانين ولا حتى شرائع السماء.
السفسطة في العالم الثالث المعاصر، هي أدنى أنواع السفسطة تاريخيا، لعدة أسباب لربما أبرزها هو عدم استنادها لأيّ من الركائز العقلية، فالسياسي العربي على سبيل المثال لا يمتلك القدرة على إنتاج مبدأ يضاهي زعيم السفسطائيين الإغريق “بروثاغوراس” حين قال: الإنسان مقياس كل الأشياء”، فالسياسيون العرب وبالإضافة إلى إفلاسهم الفكري والأخلاقي هم لا يقنعون أحدا بما يقولون، حتى أنفسهم هم.