لا زلت تحت تأثير طلاسم ”العربي النص” الأبجدية، تلك الطلاسم المنبعج مدادها من عمق قشتالة، وبلغة قشتالية صقيلة، التي رقن بها نصه القصير “ساكوندو”، وهي مفردة ابتدعها من تناص غير صريح، مع رائعة “ماركيز”، مائة عام من العزلة، وتحديدا من اسم المدينة التي دارت بها أحداث تلك الرواية المهيبة، “ماكوندو”..
وإن كنت تارة في بعض قفشاتي، وشطحاتي الكتابية، قد أطلقت على مدينتنا، “الحَارة الحارّة”، وتارة “مدينة الرياح”، أو “مدينة العدم”، فإن مفردة “ساكوندو” المستنبطة بعبقرية العربي من عوالم ماركيز، أدهشتني أكثر بنفوذها نحو عمق المدينة، وعجائبيتها الواقعية الغريبة، قبل أن أعمد إلى ترجمته للعربية، مع تصرف بسيط في بعض الأحيان..
لقد أوقفني النص بدهشة متناهية، على تلك الناصية، التي يتفنن الأدباء والنقاد عليها، لابتكار مسميات لكل جنس أدبي، بمفردات لماعة ولماحة، وهي مفردات قد يظنها القارئ شيئا خارقا للعادة، كتسميتهم لأدب “غابرييل غارسيا ماركيز”، بالواقعية السحرية، الأمر الذي قد يثير سخرية الكاتب نفسه، الذي لم يقم بفعل أي سحر أثناء ممارسته فعل الكتابة، بقدر ما متح متنه الحكائي من واقعه المعاش، وحوله بعبقرية فذة إلى عمل أدبي رائع، وذلك ما أشار إليه “أومبيرتو إيكو”، في مؤلفه المستنير “آليات الكتابة السردية”، حين قال فيه أنه: “ضربٌ من العبث الترتيبي، أن تلجأ لتأويل نصٍ من النصوص، ضربٌ من إفساد المتعة، وقتلٌ لخيالِ الآخر، التنظير لآلية معينة يقتل أجمل ما بها من عفوية”..
نعم من ذياك النص الموغل في الرمزية، والغني بترجمة أبجدية مشتعلة، لدخان واقع لا يشبه أي واقع إلا نفسه، في تلك “الساكوندو”، التي تشبه المدينة..
وها أنا بعد غياب طويل، أتقاسم وإياكم نص “العربي النص”، لنتجول معا في عوالمه العجيبة، وهو السندباد الصحراوي، الواقعي لا الخرافي..
……..
كانت بضع ساعات هي المتبقية من عمر العام، الذي سيصبح بعدها من الماضي، بينما كانت مدينتي، التي تشبه بعض النساء، في التوق بعدا، والخنق قربا، تلك المدينة المعزولة، المنفجرة من اللاشيء، والرمادية المتربة؛ قدت بدأت تظهر معالمها المنهكة..
لحظتها بدأ الزمن يتوسع ويتشوه، عندما كانت السيارة التي تقلنا، تعبر الجسر العتيق؛ لوادي الساقية الحمراء الجاف، والذي يعانق “سيدي” بويا ب“ساكوندو”، وبدأت معه الطاقات القديمة، التي لا توصف، عملها الخانق على الفور؛ عبر حرق جزء كبير من الأكسجين، قبل أن يتم استنشاقه، في حين أن الطبيعة الممانعة للإستيلاء، بدأت ترشح آلاما كبيرة، بإزالة جميع الألوان عن هذه الطريق المملة..
هنا، كان اليوم الأول من السنة يوما “نَيْزَكِياً”، وليس لهذه التسمية علاقة، ببعض المسميات الغريبة أو التقاليد القديمة، بقدر ما هو أمر تمخض عنه حندس ليلة أمس؛ فبينما كان جميع سكان العالم يحتفلون بالسنة الجديدة، سقطت بالقرب من قرية “الدشيرة” صخرة ضخمة وقيِّمة، في غفلة من سكان ساكوندو، الذين خرجوا للصحراء بحثا عن صخرة لا يملكون لها من وصف، سوى حدس، تُبنى على لبناته كل التفاصيل..
من حكايا البعض هنا وهناك، أن بعض الرعاة في المنطقة شعروا بزلزال طفيف، خلفه سقوط ذياك الحجر السمائي، كما يذكرون أن بعضا من سماسرة وكالة “الناسا”، عرضوا الملايين على الذين وجدوه، وكل الأفواه هنا لا تلوك سوى هذه الحكاية، حتى لم يعد أحد يتحدث عن شيء آخر غيرها..
في مجتمع كلامي بامتياز، كمجتمع ساكوندو، لا حديث يحلو، أكثر من أحاديث المال على وقع كؤوس الشاي، فسكان الصحراء لا تربطهم بالثروة، صلة العمل وإنكار الذات، فالسواد الأعظم لا مؤهل علمي له، وتعاقب سنوات العقود الأخيرة، كانت كافية لغرس ثنائية «فرصة وثروة» في مخيالهم، ولا شيء فرصة أفضل من تعقب صخرة غالية، سقطت في بطن السوافي من السماء، بحثا عن الغنى المنشود..
اليوم الثاني من عمر السنة الوليدة، كان يوم “القائمة”، فساكوندو عن بكرة أبيها لا تتحدث سوى عن التغييرات الكبرى المحتملة على مستوى الإدارة العمومية، وتحديدا عن لائحة مختارة، لأسماء ستتصدر المشهد الإداري هنا، بعد إزاحة من ذبلت ألوانهم في شاشته.. أماي فلا شيء يحيرني في هذا المعمعان كله، سوى سر هذا الهوس، الذي يحمى وطيسه في نفوسه أهل ساكوندو، إذ أني متيقن أنه لا ينكفي صنم إلا أتى صنم، وخلف كل نذل يزاح نذل جديد، ينصب خلف مكاتب خشبية، لا ترى عيونه حياة الناس، ولا يرعاها ضميره..
ربما هو الأمل، يغازل رؤوسهم التي كساها المخاط، بأن هنالك يوم ستبزغ من إشراقته، أسماؤهم في قائمة ملفقة، ولو كانت قائمة تقود إلى المقصلة!..
الأمس كان “يوم الإشتعال”، وفجر ساكوندو بارد بلا حدود.. موضوعات “القائمة” و“النيزك” لم تعد ذات أهمية، ولا حتى لكسر روتين يوم جاف رتيب، يحاولون إحياء تاريخ “سرقة التبغ من النرجيلة”، الذي كان قد تلاشى قبل أيام دون أن يلاحظه أحد، فيما كان الجميع مشغول بالبحث عن الحجر فلكي، ولكن على ما يبدو قد انتهت صلاحيته، ولا يمكن أن يوضع على جدول الإهتمامات الجمعية، التي تبدوا كأعمدة إنقاذٍ من الدخان الأسود..
استمعت لخمسة عشر نسخة مختلفة لما حدث، وأغلبها كأنه موجه، أو يراد به أن نفهم فحواه بلا تفكير فيه، وها أنا أنتظر معرفة “موضوع الساعة”، ليومنا هذا، بينما أعاقر البن وهذه السطور..
هل سيحصل مواطنِيَّ من ساكوندو، على وقت ليهتموا فيه بحياتهم ومشاريعهم؟.. وهم أبناء شعب يناضل يوميا ضد رتابة “أيام المرموط”، المتكررة والكئيبة، ويسعى إلى خلق شيء منظم وذي أهمية، يكون حدثا يستحق أن يرسخ في الذاكرة الجمعية، ويستطيع محاربة الملل القاتل..