حين تأملت ما شهدته خلال ما مر من سنوات عمري، وجدت أنه قد ثبت في الأذهان أن هناك مواسمٌ للطاعات تعلو فيها الهمم، وتزداد فيها عبادات أكثر الناس بشكل ملحوظ، بينما يكون الحال فيما عداها من الأوقات أقل -بكثيرٍ أو قليلٍ- لكنه أقل بلا خلاف.
وحين تتفكر في ذلك تتساءل..
من الذي أسماها مواسم الطاعات؟ ولماذا؟
ألأن الله جعل لها فضلاً عن غيرها؟!
أم لأنه بفضله يسر فيها الطاعة أكثر وجعل الأجر فيها أعظم؟
وهنا ستجد نفسك تعود لتتساءل..
تُرَى لماذا يسر الله لنا ذلك، ومنَّ علينا بهذا الفضل في تلك الأوقات بالذات؟
هل لنجمع عدداً من الحسنات أكثر، ونُعوِّض ما فقدناه وقصرنا فيه في غيرها من الأيام؟
أم أنه جعلها لنا فرصاً للانطلاق من جديد نحو الأفضل، ودفعاتٍ لتحريك عجلة سيرنا نحو الهدف الأعظم، ونقاطَ تعديلٍ لمساراتنا نحو طريقه المستقيم؟
إنني أفكر في أنه لو كان الجواب هو الأول، فسيظل طبيعيٌ ما نفعله ونكرره كل عام وفي كل موسم للطاعة كما نسميه، وإن كان الثاني فالحال إذن يحتاج إلى وقفة!
وقفةٌ للتفكر والتأمل، وقفةٌ لتدبر حكمة الله وفضله ثم خطة لاغتنام ذلك.
إننا لو تحدثنا عن رمضان مثلاً فهو الشهر الفضيل، فيه تُيسَّر كل الطاعات وكلنا يعلم تفاصيل ذلك، لكنَّ الجميلَ فيه أكثر أنه يأتي بالضبط بعد شعبان، الشهر الذي ترفع فيه أعمال عامنا السابق كله.
ماذا لو تعاملنا مع رمضان على أنه الشهر الأول في العام، الشهر الأول في عام الطاعات؟!
ماذا لو تعاملنا معه على أنه مصدر الطاقة الذي يعطي محركاتنا الدفعة الأولى كي تعمل و تسير؟!
إنَّ قدومَ رمضان بعد شعبان يُمثلُ إعطاءنا فرصةً لإصلاح أخطائنا التي اقترفناها، يُمثلُ بدايةً جديدةً بعد مراجعة لأعمالنا طوال العام الذي مضى، واستكشاف مواضع الخلل ومن ثَمَّ وضع الخطة لإصلاح ذلك، فيصبح رمضان هو مَوسمُ إضافةِ نقاطٍ لقوتنا وإصلاحٍ لمواطنِ ضعفنا، وبذلك نصبح في كل عام أفضل مما سبق، ويصبح كل رمضان بداية لشخص أكثر نجاحاً في الدين والدنيا.
إنني أحلم أن يتحول تعاملنا مع رمضان وغيره من الأيام الفاضلة، من “موسم جمع الحسنات وكأننا نجمع خزيناً نستنفذه في باقي العام” إلى “موسم لوضع لبنة جديدة في صرح بناء ديننا ودنيانا”، وهذا لن يتم إلا بنفسية تترك الحرام لأنه حرام، وتعزم على عدم العودة له، لا بنفسية تتركه على طريقة “فاصل ونواصل”، فتتركه خلال رمضان ثم تعود إليه مسرعة بعد انقضاء الشهر، وغالباً في ليلة العيد تحت راية “يا ليلة العيد أنستينا”.
إن حقيقة كون رمضان هو الدفعة الحقيقة والفرصة الذهبية لبناء جوهرٍ متميزٍ لمسلمٍ غير عادي، يحتاج إلى عقلية مخطط عبقري يعلم ما الذي يحتاج إلى جعله جزءاً من عاداته اليومية، فيستغل أيام ذاك الشهر الفضيل في التدرب على ذلك، حتى يخرج من رمضان على الأقل بعادة حسنة جديدة يفعلها كما يأكل وينام بسهولة ويسر.
تخيل كم ستكون رائعاً، إن كان كل رمضان يعني لك ترك ذنب أو صفة قبيحة للأبد، وإضافة عبادة أو صفة حميدة إلى جميل ما عندك بالفعل..!