الحديث عن الإنسانية يجعلنا نكثر الوصف والسرد دون الوصول إلى نتائج، أو نصل إليها لكننا لا نتخطى كوننا وصلنا إلى نتائج سطحية غير صحية أبدا، لهذا تزيد دهشتنا بتلك النتائج ولا تشفي غليل المتأمل الذي يأمل الوصول إلى ركائز بارزة تستطيع اتخاذ الكثير من العناوين منطلقات تشيد عليها الأفكار.
يشهد العالم اليوم تحولات كبرى على الصعيد النفسي لأفراده، هذا ما يؤدي دور اللاعب المحرّك بين الانشغالات والأهداف، وهذا بالذات ما يحمل مشاعل العقول البسيطة نحو هلاكها، والسبب واضح كما يبدو: اتباع نماذج أجنبية عن الذات، والهرولة باتجاه مناطق تجعل الروح أكثر بؤسا.
العلاقات التي تنشأ بين الأفراد في العالم اليوم هي علاقات قهرية لابد منها ويفرضها التشبث بضرورات البقاء، وهذه بالذات القواعد التي تدفع البشر ناحية التيه، إذ لا أحد يكوّن اليوم علاقة قادرة على رأب تلك التشققات الرهيبة التي جعلت حياته منكسرة القدرات، وإنما هناك الكثير من الحُفَر على المسار، الوقوع فيها معناه “ضياع الأمل”؛ لا أفهم مقولة: فلان يكتب بلا تفكير! فهل هناك شخص في الدنيــــا يستطيع الكتابة بلا أفكار؟ شخصيا؛ لا أعتقد ذلك، إن كان بلا أفكار ولا يفكر وغير معتمد على أفكار ما، فكيف ينسق الكلمات ليركب جملا؟
الجملة حاملة لفكرة معينة بالضرورة، وكل جملة حتى ولو كانت مقولة شفويا فهي تحمل فكرة ما، الفرق فقط في مصدر الفكرة التي تحملها تلك الجملة، فهناك كاتب يكتب أفكاره، وهناك كتاب يكتبون معيدين نسخ وتركيب أفكار غيرهم، الفكرة هي عنوان الكتابة ومضمونها، بل أنـا أعتبرها عنوان “الحيــاة” وهيكلها..
كل ما يقوم به الإنسان هو من منطلق الفكرة، وهي الوحيدة التي تحرك كل ما يتحرك فيه، قد تقوده إلى هلاكه، قد تقوده إلى منفاه، قد تعيده إلى ما وراء قيمه ومعانيه، وقد تقفز به من بين كل هذا وذاك إلى آفاق بعيدة وعميقة للغاية؛ عندما تفكر فأنت تبذل جهدا مقدسا، ولما ترتفع بتسلسل أفكارك، فأنت تزيد من سرعة تدفق قواك باتجاه تركيز مراميك وأهدافك على مساعيك ومجهوداتك، التفكير هي العملية الحية الوحيدة في الحياة، لأن الأفكار تولد بعد تحمّل آلام شديدة الوقع على صاحبها، والقليل بل النادر منا، مَن يركّز على الأفكار وصناعتها بدل أن يستورد بعضها بالطرائق الجافة جدا. الحياة هي فكرة. الفكرة هي جهد معنوي.
في ظل كره الإنسانية لبذل الجهد وتعلقه بالرفاهية المزيفة التي يعيشها، فإن الأمر كله ينحرف من التمسك بالإنسانية إلى التشبث بالخمول والجهل. لا يحمل الإنسان بين خواطره الأمر الهام في الكثير من الأحيان، وإنما يسير على جانب مفترق طرق لا ينتهي عند حافة محددة، إنّ العلاقة بين الإنسان وذاته تخضع لمشادات وحروب داخلية لا تبدوا للآخرين، لكنها تؤثر عليهم ما دامت تؤثر على تصرفات الفرد ذاته.
تعقيدات كثيرة يعيشها المجتمع الجاف، فأيّ فكرة تبرز في محيطه يتسارع أفراده الجهلة إلى قطفها كما تقطف الورود الجميلة وترمى على قارعة الطريق لتدوسها الأرجل وفي النهاية تجف وتموت، عندما تحركك معتقدات متداعية الحضور والبقاء، فإنك ستخسر كل شيء، وستعيد تكرار موتك كل ثانية، رفاهية الإنسان من ثروته المعنوية ومن رأس ماله الداخلي، من ينتج الأفكار ويحافظ على حياتها هو الأقدر على المكوث بجوار السعادة لوقت طويل، ومن يرغب بالبؤس، سيعيشه بالمجان، وسينعم بالشقاء وهو يعتقد بأنه في نعيمه الانفرادي، يعيش المجتمع الجزائري هذه النوعية من البؤس، بؤس الأفراد وشقاء التطفل الفكري على غيره، هذا ما يجعل الحياة الجزائرية مزيفة.