سِديافا (الجزء الثالث)

من المكونات الهامة للإنسان “العقل”، وهذه الآلة الغريبة التي تضخ الكثير من المعلومات إلى الروح الإنساني وترتب الكثير من الأحداث أمام السنيما الروحية البشرية، هي ذاتها الآلة التي تكسر المعلومات وتقصيها من الفهم البشري نفسه، أي أنها تحتمل احتماليْن متناقضيْن في أدنى درجات التخمين والمواربة.

قصة اكتشاف العقل البشري والأخذ بما يسوده ويتحكم فيه ظهرت مع بدايات الفطنة إلى وجود التفكير بالمعطى الخاص والمؤثر على الداخل البشري، وهي أمور تجعل من الفرد ذاته قاعدة أساسية تسري من خلالها المنتديات العلمية-الفلسفية الخاصة بمفاهيم الوجود ومتطلبات القواعد العامة لدى الإنسان في مجال حياته.

من المسائل التي تحدد مصير الإنسان استخدام الفرد لعقله وجوهره ومكاناته وعملياته العاطفية التي تبدوا وكأنها غير مرغوب فيها عند تصوّر العقل واعطائه كافة حقوقه المخفية بقناع الوعي والجدل، إنّ لعمليات العقل الكثير من تسلسل التفاعلات التراجيدية الهامة التي تؤدي بالإنسان إلى العودة إلى احضان عقله كلما بدت له الحياة غامضة، لأن العقل في حدّ ذاته يحمل من الغموض ما يتجاهله الضمير وما يمكن تخطيه إثر شُغْلٍ بسيط من طرف الأعصاب.

في تلك الليلة العلمية-الفكرية الهالكة، ولد القمر وهو يمسك بيد العقل جزافا، أراد بهذه العلاقة أن يؤسس لخبرات تتوالد وتؤكد بأن الإنسان بخير.

في تلك الليلة فحسب، عاد الزمن إلى المتغيرات طارحا إياها على العقل، إما لتكون من خدمه، أو تصبح من الأمور المبعثرة على طاولته، لم يحكم عليها كما هو معروف، وإنما حملها في صلبه، تنحى عن تأثيراتها، ثم أعاد إلى جوهرها الكثير من أناقتها بمطرقة السلوك وصرامة المحاكاة.

ينسب الكثير من المتفلسفين للعقل ما ليس فيه، ينسبون له الفعل وردود الأفعال، يجادلون بأن الذكاء عقليّ، وأنّ النباهة متفرعة من العمليات العقلية، يربطون الموهبة بالعقل كذلك، ويسمحون لأنفسهم بتأليه العقل وعبادته، ناسين أن هذا العقل لطالما أنتج الخيال والأحلام، وفلتت منه المشاعر والقيم وحتى التحكم في الكثير من المواقف، يسمون غير العاقل بالمجنون، وتناسوا بأن هؤلاء المجانين “غير العاقلين” هم الذين حملوا إليهم الفتوحات العلمية وبشروهم بتعاليم السماء؛ العقل والحياة علاقتهما كعلاقة قطط بأبنائها، تحبهم لدرجة أكلهم أحياء، الحياة تحتاج لصرامة العقل، والعقل يحتاج إلى حياة الإنسان حتى يتمكن من التحكم فيها.

يقول هيرقلطيس في الشذرة الثانية والسبعين (72): “إن اللوجوس أو العقل الكلي بالرغم من أنّ الناس يرتبطون به ايما ارتباط غلا أنهم منفصلون عنه، ولهذا فإن تلك الأشياء التي يصارعونها يوميا تبدوا لهم غريبة”.

الكثير منا يعتقد بسيادة اللوجوس على حياته، فتراه يضع الحسابات المبنية على أهواء تسمى: الفرضيات، ثم يعمد إلى تصديقها واعتمادها كقواعد “مقدسة” لا تراجع عنها أبدا، إنّ الإنسانية لا تستند دائما إلى العقل، وإن كان اللوجوس حاضرا، بل وجزء هاما من التكوين الإنساني الحيّ للفرد البشري، إلاّ أن الإنسانية والحياة ككل تحتوي على مشاعر وعواطف تشكل البحر الروحي الواسع والعميق ضمن التجارب الإنسانية المحصورة.

على أرض القراصنة! اللوجوس لا حضور له سوى كفينة تزويقية ترقيعية لا أساس لها من العطاء والحسبان، بل إنّ أهم مقدسات العقل ألا وهي: القواعد، لا يتم استخدامها سوى كعصا من أجل جلد المظلومين، لأنّ سادة القراصنة فوق القواعد والقوانين، هم فوق سلطان العقل وأسسه التي لا تفرق بين البشر.

تعامل الكثير من الفلاسفة مع العقل كضرورة، بعضهم جعله معطى وحسب، لكن المهم للغاية في قضايا كهذه، هو التحرير الذي يتصاعد أمام أهمية السطوة التي تمارسها الرغبات بقناع التعقل، فلا يوجد بين تلك القواعد الصارمة الناتجة عن النشاط العقلي ما هو عقلي خالص كـ: جوهر، إذ أنّ هناك الكثير من تلك القواعد ذاتها ما هو مبني على ركائز تتجاوز تلك المظاهر العقلية بكثير.

حتى مبدأ “الحتمية” الذي يلبس لباس الموضوعية والنزاهة وعدم الخضوع لأي سلطان بعيد عن مكامن التعقل والتفكير، هو أيضا عبارة عن رصيد أداتي للرغبة الجامحة لدى الإنسان في السيطرة والتميّز، لهذا كفى يا لوجوس ضحكا على الذقون.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version