تُقصَف الغوطة الشرقية المحاصرة منذ 5 سنوات، ولكن في مساء يوم الأحد 18 فبراير بدأتْ حملة القصفِ الشّرسة على الغوطة، حملةُ قصفٍ لم يشهدْها أيُّ أحدٍ من قبل، الجميع ينتظرُ أن يهدأَ القصفُ ليبدأ بحياتهِ المختلفة عن الجميع. هذا إنْ بقيَ على قيدِ الحياة..
الغريبُ في ذلك اليوم؛ أنّه لم ينتهِ القصف إلى يوم الأحد 25 فبراير.. كما اعتقدنا؛ دماءٌ مختلطةٌ بالدّموع، الدموعُ ممزوجةٌ بالخوف، الخوفُ خالٍ من الأمان، الأمانُ عاصفٌ بالرُّكام، الرُّكام راعدٌ بالصّراخ، الصُّراخ مكتظٌّ بالجرحى، الجروحُ زاخرةٌ بالأشلاء، والأشلاءُ سبقت صاحبها إلى ربها.
آلافُ الجرحى، ومئاتُ الشّهداء..
فبراير الأسود..
اليوم، شعرتُ بإحساسِ الأبرياءِ الذين قُتلوا في الحربِ العالميّة الثانية. أهكذا عاشُوا..!
ساعات بل أيام طويلة، وأنا جالسٌ بذلكَ الملجأ كسائرِ النّاس، كانَ “القبو” خاليًّا من الأبواب، أرضُه لا زالتْ على التراب، الحائطُ عليهِ بقايا قطع حديد، يعجُّ الملجأ بخمسة عشرة عائلة، أيّ ما يقاربُ 100 شخصٍ بين أطفالٍ ونساءٍ ورجال.
دويّ الانفجارات يحجُب أصواتنا، وأحيانًا يحجبُ رؤيتَنا لكثرةِ الغبار، أمّا بعضُ النّاس فقد حجبتْها تلكَ الأصواتُ عن الحياة.
مضتْ ساعات ولم يتغيّر شيء، بل كانَ الوضعُ يزدادُ سوءًا، بدأ الهواء البارد يتسلّلُ من نافذة الملجأ إلى أجسادنا المذعورة، أمّا الجوع فكان يُصدِر أصواتَ “قرقرةٍ” من بطوننا، كان رداؤنا الخوف وطعامنا التهليل.
تراكمتْ السّاعات إلى أن أصبحتْ يومًا، لم ينتهٍ القصف بعد! فلا زلنا نسمعُ أصواتَ الطائرات والصواريخ وسيارات الإسعاف.
الآن نسمعُ صوتَ صاروخٍ حاقدٍ يحرقُ الهواء، إنّه داخلٌ إلى الملجأ الذي بجانبنا، أصواتُ الإسعاف والقصف مستمر.
لم يعُدْ يمكنني الجلوس أكثرَ من ذلك، أريدُ أن أساعدَ الناس، ذهبتُ مع سائق الإسعاف إلى المشفى؛ المشفى خاليةٌ من الاستقرار، البكاءُ والدّماء يعمّانِ المكان، أطفالٌ بلا أيدي، بلا أرجل، نساءٌ مغطّاةٌ بستائر منازلها، أشلاءٌ على الجانب، شهداءٌ على الشّق الآخر، جرحى لا تُعدّ ولا تحصى.
أطباء تعمل، ممرضون يركضون، أمهاتٌ تصرخ، أطفال يبكون، رجال تموت، دماءٌ على الأرض..
سائق الإسعاف ذهبَ ولم يعد! المُستلزمات الطبيّة بدأتْ تنتهي، والجرحى لم تتوقف..
الطائرة توجّه صواريخها الروسية نحو المشفى، انفجارٌ يصعقُ الجميع. إصابةُ الكادر الطبيّ، خروج المشفى عن الخدمة، صاروخٌ آخر على نفس المشفى للتأكد أنّه لم يخرجْ أحدٌ حيّ..
الجميع يعمل، والكلّ يقدم، الطيران لا يهدأ والقذائف تسانده، أناس تحتٌ ركام الأقبية تلتقطُ أنفاسَها الأخيرة..
يوم آخر، ويأتي أخي مُصابًا ممتلئًا بالدّماء، أنظرُ إليه وأشهقُ من دون زفير..
ساعاتٌ قليلة وتأتي عمتي مُصابة، أيامٌ أخرى ويأتي طفلٌ رضيعٌ قد ماتَ لأنّه لم يجِدْ حليبًا ليشربه..
بقيَ السيناريو هكذا لأيام؛ لم يعد هناك شيء فوق الأرض، كلّ الأزّقة خالية إلاّ من الموت، صوتُ تحليقِ طائراتٍ في اللّيل، كان ضوءُ الصّواريخ الحمراء يصعقُ النّاظرين، صوت الشَّظايا، ورنينها على الأرض باتَ أوضحَ من كلّ شيء.
الجميع كان ينتظرُ قرار الهدنة، ساعاتٍ ونسمعُ أنّهُ تأجل قرار التصويت، أيّ أنّها فرصةٌ لروسيا والأسد لكيّ يقتلونا قدر الإمكان، صدر قرار الهدنة أخيرًا، الغريب أنّه إلى الآن هناك طائرات تقصِفنا.
لم يرتسمِ الأمانُ على قلوبنا إلاّ أربعَ ساعاتٍ ونيّف..
بعد الهدنة، قامتْ الطائرات باستهداف المشافي الخارجة عن الخدمة، إصاباتٌ جديدة، وقصفٌ مفاجىء، الموتُ بعد الهدنة كالموتِ قبلها، لم يختلف شيء، سوى أنّنا نُباد على مرأى الجميع بهدنةٍ دولية.
خرجتُ إلى الطريق، فوجدتُ مدينةً مُغايرة، لعلّه “تسونامي” ولكنّ التسونامي كانتْ ظاهرةً طبيعة..
أتألم جدًا عندما أعلمُ لماذا نحنُ نُقصف، نُقصَف لأنّنا كسرنا حاجزَ الخنوع والذل، لأنّنا نريد الحرية، ولا زلنا على العهدِ سنهتفُ بالحرية، حتى ولو اقتلعتُم حناجرنا، وسيرحلُ الأسد وتبقى سوريا حرةً أبيّة..
إنّها ليستْ روايةً لفكتور هوجو، إنّها مأساةٌ تعيشها الغوطة الشرقية في كلّ لحظةٍ تمر..
اعذريني غوطتي، فلمْ أستطِع أن أصيغَ كلّ آلامك بقلمي، فأنا عاجزٌ عن التعبير حتى لنفسي، للّه درّكِ غوطتي!