شبح العنوسة

أنا زهرة، الابنة الأكبر بين أخواتي البنات، يفصلني عن سن الخامسة والثلاثين يومين وأربع ساعات وسبعة عشر دقيقة واثني عشر ثانية بالتمام والكمال.

لستُ عانس ولكنني على مشارف الزواج، قبل بضعة أشهر خُيِلَ لي أن قطار الزواج قد فاتني، عشتُ يائسة لسنوات طويلة، كل صديقاتي تزوجن ومنهن من صارت أما لها كومة أطفال، أختاي الأصغر مني سنا استقرا في بيت أزواجهن وهم في سن العشرين، كثرُت الأقاويل عني وصرت في نظر هذا المجتمع “عانس فاتها القطار”، ولكن القطار توقف في محطتي كمعجزة وها أنا اليوم مشغولة بتحضيرات الزفاف.

حينما تمت خطوبتي تغيرت الحياة في نظري، حينها كنتُ سعيدة ولن أنكر سعادتي، تغيرت ألوان الدنيا في عيني وكل شيء صار مطليا باللون الزهري وصارت أيامي كلها ربيعا بعد خريف ظننته لن ينتهي، ما عاد هناك ما يُثقل كاهلي، ولا شيء أصبح قادر على إزعاجي، تلاشت كل الآلام بعدما كانت أكبر آلامي “عنوستي” التي أرفضها ولا أطيق التفكير فيها.. تحررت من ثوب العنوسة وخرجتُ أقابل هذا المجتمع بمختلف أجناسه بكل ثقة كما لو أنني حققت إنجازاً عظيماً وما الأمر سوى أنني على وشك الزواج.

صرتُ أذهب إلى العمل بعد هذا الحدث الأكبر في حياتي فأحرك يدي متعمدة يميناً وشمالاً ليرى الجميع خاتم خطوبتي ولكي يُعلِم الحاضر كل غائبٍ عما تغير في حياتي، غيرني هذا الوضع، باتت الأمور أسهل في نظري، وصارت لدي القدرة لأضع عيني في عين كل من أهانني وتكلم عني، ولولا الحياء والخجل كنت لأصرخ بأعلى صوتي قائلة “لم يفتني القطار” حتى ينتشر هذا الخبر في أرجاء العالم كقنبلة الموسم.

لا يفصلني عن ذكرى مولدي سوى يومين…، وسأكبر سنة أخرى ولن يكون هناك فارق بيني وبين سيدات سن الأربعين، العمر شيء مخيف، هاجس البشرية، سنة الحياة، نكبر ولكننا نتوق دوماً للبقاء في سن العشرين أو ربما أقل..، العمر يمضي بسرعة مخيفة والأيام تركض بنا إلى المراحل التي لا نريدها نحن البشر ولا مهرب لنا منها.

لم يتبقَ على زواجي سوى أسبوعين، ولكنني ما عدتُ كالسابق، منذ شهر تقريباً انتابتني أحاسيس غريبة، وصرت أشعر كما لو أنني زهرة غير التي أعرفها، كما لو أن التي تقف أمامي لستُ أنا ولا تمُتُ لي بصلة، ربما لجدية الوضع؟ أو لعلني تسرعت؟

كنت أحتاج لوقت كبير لأعي أن أفكاري حبيسة هذا المجتمع الذي لا يعجبه العجب، وأعترف أن كل أفكاري كانت تدعو للشفقة..، منذ أن عايشت وضع العنوسة وأنا في حالة بحث عن رجل مفقود لم يأتي بعد، وما أن عصفت به الرياح نحوي تمسكت به بقوة لا تضاهيها قوة أخرى ولم أهتم حينها لأفكاره وميولاته وشخصيته وثقافته وطباعه أو لأي شيء آخر يخصه، كل ما كان يهمني حينها أنه سيضع الخاتم في إصبعي وسيسقط عني لقب العنوسة وسيأخذني معه إلى قفص الزوجية ولغير هذا ما اهتممت. قد أبدو متخلفة؟ ولكنني فيما يتعلق بأمور الزواج كنت متخلفة بالفعل.

“ظل راجل ولا ظل حيطة” كانت والدتي تستدل بهذا المثل كلما تعبت روحي مما أقحمت نفسي فيه، ولكنني اقتنعت أخيراً أن ظل الحائط أهون من ظل الرجل الذي كاد أن يصبح زوجاً لي. أريد حباً، أريد أماناً، أريد بعد كل هذا الصبر اختياراً لا يعقبه الندم وباختياري هذا أعلنت الحرب على نفسي ودخلت إلى متاهة الندم بخطى ثابتة، وتساءلت كثيراً هل أعيش مع هذا الندم أم أضع حداً لكارثة أوشكت أن تقع؟

حياتي مليئة بالصديقات المتزوجات، سمعت كثيراً نبرة الحب كلما بدأن في الحديث عن عشقهن، لهفتهن، فرحتهن، أصواتهن المتحمسة في الحديث عن أزواجهن بمنتهى السعادة، حكايات وقصص مليئة بالحب والعطاء المتبادل وعلاقات تزداد ترابطاً وتشابكاً…، كلما سمعت هذا في مجلسهن وكلما أسردن تعامل أزواجهن معهن انتابني شعور بالقهر، شعور مميت يشعل في قلبي ناراً لا تنطفئ، تلك التفاصيل التي أسمعها تحرقني في صمت، فأقارن أزواجهن بزوجي المستقبلي فأتساءل “أين أنا من كل هذا ؟”، وسرعان ما أتذكر أنه رجل من جليد، بارد المشاعر، لا يفقه في الرومانسية شيئاً، صلب وبالإضافة إلى أنه قذر يصيبني بالغثيان..

لستُ راضية على هذا الاختيار، ولستُ راضية لما آلت إليه الأمور، هذا الرجل الذي سأناديه زوجي لا أحتمل فكرة أنه سيشاركني حياتي، لا أعرفه ولكنني لا أرغب فيه، كما لو أنه مثلي مرغم على هذا الزواج هرباً من القيل والقال، ولكن الرجل لا شيء يعيبه فلما قد يكون مرغماً على خطوة كهذه؟ أكلمه يمينا يجيبني شمالا، أخطط معه لزفافنا أجده شارداً تائهاً كما لو أن الأمر لا يعنيه، أضحك معه فيضجر مني، أتكلم معه بعقلانية يقول عني جدية أكثر مما يجب، أمازحه فيقول عني طفلة، أعاتبه على شيء معين فيصرخ، أجادله فيقول عني متعصبة، أطالبه بكلمة طيبة فيقول عني متأثرة بالمسلسلات التركية..

أعيش الخيال معه فيوقظني قائلاً “نحن لسنا في العالم الأفلطوني”..، أطالبه بحقي فيه فيهزأ مني..، كلما فتحتُ معه نقاشاً ما يتحول هذا النقاش إلى صراخ جارح ويصب كل غضبه علي، في كل مرة أجد أننا لسنا مختلفين فحسب بل نحن أبعد من الاختلاف بحد ذاته، لا نلتقي، لا نتطابق ولا نتفاهم..، آتي على نفسي مراراً لاستمرارية هذه العلاقة وأتنازل بدلاً عنه ليكتمل هذا الزواج المرعب بينما هو لا يكلف نفسه عناء المحاولة..

كل هذا ما كان يهمني في شيء، لأن الأهم أنني ما عدت تلك العانس التي ظنت لوهلة أن القطار قد فاتها، تحملت الكثير في سبيل التحرر من تلك الكلمة اللعينة التي رافقتني مدة طويلة، تقبلتُ رجلا لا أشعر بالانتماء إليه ولا أرى فيه مستقبلاً يلائمني.

كنتُ أنزعج من هذا الوضع، كنتُ في كل مرة أفضفض لوالدتي عن ما يحدث بيننا وكانت في كل مرة تقول لي أن هذا يحدث مع كل المخطوبين فتسرد لي قصصها مع والدي وتختم قولها “كوني أنتِ صاحبة العقل الكبير واحترمي خطيبكِ ولا داعي لتلك النقاشات الحادة والتفكير الساذج، تعاملي مع الرجل كما لو أنه دائماً على حق واضمني استقرارك”، وفي كل مرة كنا نتجادل أنا وهي لأن نصائحها تلك يرفضها عقلي، أن أعامل الرجل دائماً على أنه محق وإن كان العكس هذا ليس من شيمي ولا أستطيع أن أكون له عبدة وأنسى أنني إنسانة وقبل كل ذلك أنثى. هي تريدني أن أتزوج فحسب ولا تعلم أنها ترميني إلى حقل مليء بالألغام.

ذات يوم طلبت منه أن نتناول وجبة الغذاء في أحد المطاعم، في بداية الأمر أبدى رفضه ولكن سرعان ما أقنعته بعد جدال كاد يؤدي بنا إلى الخصام، ذهبنا كأي مخطوبين لا يحبان بعضهما وكنا نسير معا كما لو أننا لا نعرف بعضنا البعض، ربما لو غازلني أحدهم ما كان ليلاحظ ذلك لأنه يسير في الأمام وأنا خلفه، جلسنا على الطاولة وطلبنا ما لذ وطاب من الأكل، كل تفكيره انصب حول الأطباق التي أمامه أما عني فوجودي كعدمه، لم نتحدث ولم ينظر إلي أبدا، هو حتى لم يخبرني أنني أبدو جميلة بعد العناء الذي طالني وأنا أمام المرآة أتحضر وأتزين كي أخطف أنظاره..

غاص في ذاك الطبق وأكل بشراهة حتى أصابني بالغثيان وقلت لنفسي “أهذا الوحش البشري سيكون زوجاً لي!”، ذهلت مما شاهدته وفي كل مرة أواجه حقيقة شديدة المرارة، أشياء كثيرة اكتشفتها فيه وتحملتها من أجل هذا الزواج اللعين ولكن كيف لي أن أتحمل هذا بعد الزواج؟ أنا أمقته وهو مجرد خطيب وحينما يصبح زوجي القذر كيف سأتعامل مع الوضع حينها؟ لم أتناول وجبتي ذاك اليوم، فقدت شهيتي مع ذاك الشخص.

قبل يوم اتصلت به كي ألتقيه ولكنه رفض كالعادة، جلست في غرفتي أفكر في كل شيء وفي اللاشيء، أعدت شريط حياتي من بدايته إلى الآن، وضعت أمامي كل المواقف، وأمعنت التفكير في كل ما أقحمت نفسي فيه بلهفة وبمحض إرادتي.. استوعبت بعد يوم من التفكير أنني ألقي نفسي في الهاوية، وأنني على وشك الإمساك بتأشيرة ذهاب ليس من بعدها عودة.. مجازفة! كل ما أقوم به مجازفة من أجل طريق لا يستحق كل هذه المجازفة. فكرت كثيراً وعدت إلى نقطة البداية ولكنني لأول مرة أفكر في راحتي أنا وليس فيما قد يقوله الناس عني.

في اليوم الموالي أتى لا لشيء سوى ليتناول وجبة الغذاء، منزل والداي تحول فجأة إلى مطعم مجاني يأتي صاحب كرش متدلية ليأكل ويعود من حيث أتى، انتظرته حتى أنهى وجبته الأخيرة وودعته باشمئزاز وهو يخبرني أنه سيأتي مساءاً ليأخذني معه كي يشتري بذلته، تمنيت للحظة أن لا يجد هذا الضخم مقاساً يناسبه أو أي شيء من هذا القبيل حتى يتم إلغاء هذا الزفاف ولكن ما من شيء سيلغيه.. أنا كدت أتورط وصار لزاماً علي أن أحسم قراري.

جاء المساء، جلس على الأريكة مع والداي ينتظرني بعصبية لأنني تأخرت، خرجت من غرفتي أرتدي “بيجامة ميكي ماوس” ونظر إلي نظرة سخط لأنني لم أرتدي ملابسي بعد، صرخ في وجهي وانتظرته إلى أن أنهى صراخه وقلت له بتهكم: “متوعكة قليلاً، اذهب لوحدك”، فانزعج مني أشد الإنزعاج ومن ثم غادر.

دخل والدي إلى غرفتي مستغربا:

“- ولكنك لست متوعكة يا ابنتي؟

– أنا لست متوعكة يا أبي بل أنا أحتضر، أحتضر هنا في قلبي.

– ألا تريدين الزواج منه؟ هل فعل معك شيئا؟

– لقد عشت طيلة حياتي هاربة من نظرات الناس لي، أنا أهرب من كلام الناس إلى حضن رجل لا أحبه وأرفض كل ما هو عليه، والدتي تضغط علي، من حولي يضغطون علي، المجتمع بأسره يضغط علي، أن أكون في هذا العمر دون زواج أمر لا يستوعبه الناس، أنا ألقي بنفسي إلى الجحيم ولا قدرة لي على التراجع وكل شيء يدفعني للتراجع. سأبلغ الخامسة والثلاثين وهذا كان أمر يرعبني لأنني أكبر لوحدي بلا رجل أستند عليه في حياتي من بعدكَ أنت، كنت أريد الزواج لأختبئ فيه من العنوسة التي ألقاها المجتمع علي أنا وأمثالي، كنت أريد أن أتزوج فحسب، المهم أن أبرئ ذمتي، ولكنني ما عدت أرغب في ذلك، ما عاد مهما أن يفوتني القطار لأن الزواج شراكة أبدية عليها أن تنبني على أسس مثينة، أنا أيضاً أستحق الحب يا أبي، أنا أيضاً ثمينة، أنا زهرة التي لن أسمح لمخلوق في أن يجعلها تذبل.

– إذا اخلعي خاتمك، لن أسمح لكل هذا أن يحدث.

– ولكن أمي والناس والمجتمع…!

– لا شيء يعلو على ما تريدينه أنت.”

سيكون التغيير مؤلماً حينما تُغير أفكارك التي تشبعت بها وسط هذا المجتمع الرديء، أعلم أن القرار الذي اتخذته اليوم سيعيدني إلى سابق عهدي، سيراني المجتمع في ثوب العانس من جديد، سيتحدثون كثيراً ولن يملون، ولكنني لست عانس؛ أنا فقط أدركت أن الحياة تعاش مرة واحدة وأدركت أن الإنسان يملك خيارات تخوله توجيه حياته حيث يريد وقضاء عمره بالشكل الذي يناسبه.

العنوسة مصطلح شاع بين الناس وردده كل من هب ودب والحقيقة أن العنوسة شبح وهمي يسبح ويمرح في أفكار العديد من الأشخاص لتتمكن منهم هذه الأفكار اللعينة ظناً منهم أن التأخر في الزواج أو عدم الزواج عنوسة، ولكن الحقيقة التي لا يتقبلها أفراد هذا المجتمع أنه لا وجود لفتاة عانس بل يوجد فتاة تبحث عن الاختيار المناسب وقد تعيش عمراً دون أن تجد ذاك الاختيار وهذا ليس عيباً.

وضعت رأسي على الوسادة بعد يوم مرهق، شعرت بسعادة غمرتني لأول مرة، ربما لو أخبروني بأنني سأتحرر من هذه الافكار اللعينة وأنني سأتخذ هذا القرار حتما ما كنت لأصدق ولكنني فعلتها وعدت إلى نقطة الصفر، إلا أن عودتي هذه المرة مختلفة، لقد استعدتني وارتقيت بأفكاري وانفصلت عن كل ما تشبعت به وأورثوني إياه، سأطفئ شمعة الخامسة والثلاثين وأنا راضية عن نفسي.. راضية عن قراري، وممتنة لأنني لم أرمي بنفسي في النار ليرضى المجتمع عني. أنا زهرة التي زهرت من جديد، أنا زهرة الحرة، أنا زهرة التي سمحت للقطار بأن يفوتها حتى لا يدهسها بلا رحمة.

 

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version