كلنا يعرف تلك اللوحة الشهيرة التي تسمى: الحرية تقود الشعوب، وهي قمة في الإبداع الذي صوّر أهم شعارات الثورة الفرنسية، تلك التي حملت تضحيات ضخمة من أجل تحرير الإنسان من العبودية؛ فالحرية ليست فقط مطلب الشعب الفرنسي، وإنما هو مطلب لدى كافة الشعوب والمِلل، كافة شرائح بني الإنسان في كافة المجتمعات، الكل متوافق على أنها جزء لا يمكن التنازل عليه في الحياة، وأنّ أهم حقوق الفرد أن يولد حرّا ويعيش حرا بكامل قواه العقلية والجسمية، ليظهر منطق “الاختيار” على السطح، حتى صار أقدس المقدسات على الإطلاق.
هناك فرق كبير بين الحرية والحيوانية، هناك فروقات ضخمة بين الحرية والهوس، وهناك تباعد واضح بين أن تكون حرا وأن تكون وقحا مع الآخرين، الكلّ ينادي بحريته على حسب هواه، الكل يصارع من أجل أن يحقق إرادته على الأرض، وأن يحمل جملة من التفاهمات التي تجعله مؤهلا لأن يكون قادرا على فعل ما يشاء بشكل متطابق مع إرادته الخالصة، حتى وإن تمّ هذا التحقّق على حساب الغير.
هناك تقاطعات كثيرة بين الحرية والأنانية، هناك منطقة مشتركة بين الحرية والمسؤولية، وهناك أكوام من الزوايا المشتركة بين الحرية والصراع الدائم بين الخير والشر، لهذا من ضروب الاستحالة، أن تجد تعريفا واحدا للحرية، رغم أن كل فرد يصبو إليها، على حسب مزاجه وذاتيته الخاصة.
لا يزال الفرد البشري يحاول أن يكون حرّا في تصرفاته وتفكيره ومعتقداته وقراراته وطريقة عيشه، الكثير من التنظيرات تناولت هذه المسائل، لكن الشعور الحارق للحرية يبقى بعيدا عن المتناول، ذاك الشعور الذي يجعل من الإنسان قَدَرًا محتوما، ولطالما فُرضت علينا ونحن طلبة على مقاعد الدراسة، تلك المفارقة الرهيبة بين الحرية والجبرية، وإن ما كان الإنسان مخيَّرًا أم مسيَّرًا؛ والتي كانت بمستوى إعلان تمرُّدٍ صليف على كل المتغيرات والثوابت معا.
حلم الحرية هو السراب الغاضف الذي يداعب العواطف والأحاسيس، ففي النهاية هناك حسابات تضبط مسيرة الإنسان في الحياة، هناك جملة من الرهانات والتحديات التي تعيد للفرد الإنساني هيبته في مواجهته لكافة أنواع المنافي الروحية، ففي آخر المطاف هناك روح تستعر في الداخل الإنساني وهي التي تحدد مقتضيات الإنسان ولوازمه.
لا تزال في نقطة ما من قبو المسجد العتيق لأيّ إنسان صوت يحمل مناديه على التغزل بالحرية، لا يزال هناك أمل ورجاء يلتحفان بلاط ذاك المكان المجهور الموحش من روح الإنسان، إذ تبقى أمنيات تحرره من الوهم هي أبلغ التعابير عن ضياع الإنسان في اللازمن، إن العلاقة بين الكينونة والوجود تُلزِمُ الفرد بأخذ نصيبه الواضح من تكاليف الحياة، لكنها تزيد أعباءَه عندما يستسلم لأجواء كافة المتغيرات التي لطالما عادت لتحاول إغراقه في مستنقع الخيبة والإحباط.
في مطلع القرن الواحد والعشرين تعرضت البشرية لأشرس هجمة على مكامن حريتها من طرف مراكز التفكير الغربية بداعي العولمة، لقد خلفت هذه الهجومات على اللاوعي البشري تراكمات جعلت من الفرد الإنساني كائنا خالي الوفاض أخلاقيا وقيميا، عاري روحيا، مما مكنته من الركون إلى زاوية الانكسار، حتى صار هذا الأخير ثقافة متداولة بكل احترافية.
ثقافة الانكسار هذه دفعت الإنسان المعاصر إلى مراجعة التاريخ من أجل التمرّد عليه، فراح الفرد يكسر كل المعتقدات والنظم بداعي أنها تروج للعبودية، ثم عمد إلى إشاعة الفوضى في كل مكان حتى اختلط الصالح بالطالح والسيء بالجيد، لتؤدي هذه الظواهر أدوارا بُرمجت تحت عناوين كثيرة، لكنها صبت في قالب واحد، ألا وهو: هجران الذات واغتراب الروح في المنفى البعيد.
أذكر جيّدا بأن أول نص لي كتبته كمقال ونشرتُه إلكترونيا كان حول الحرية، ولا يزال هذا الموضوع يشدّني إلى البحث، لأنه هوس الإنسان الأزلي، وهو عابر للأجناس والعصور، ففي كل عصر، حلم كل إنسان أن يعيش بحرية حرّا ومتحررا من كل ما يقيّد تحرره.