في سكون الليل والناس نيام، حياة تدب، فتيات كان الهوى اختيارا لهن وأخريات ما كان لديهن من بديل، سلكن دروبا ليست دروبهن، وجدن في الدعارة ملاذا يدر عليهن ما ينقذهم من تكاليف الحياة الباهضة.
اخترن طريق الظلام والفساد، فانجرفن نحو الشهوات، لم يتخيلن يوما منذ نعومة أظافرهن أنهن سيقتحمن عالم الدعارة، بعن أنفسهن بعدما وهبن أجسادهن الثمينة مقابل المال، بعن الشرف، بعن الكرامة، بعن الثقة، بعن احترام ذواتهن..
تجردن من الإيمان، تخلين عن قيمهن الإنسانية والسامية، أصبحن بضاعة رائجة ورخيصة بدون قيمة، يبعن المتعة لأشخاص استهوتهم الشهوات والملذات في هذه الدنيا.
اختلفت ظروفهن، كل على حدة، لكل قصة طويلة الفصول، لكل أسبابها ودوافعها، ربما أردن تغيير وضعيتهن نحو الأفضل، ربما عايشن العديد من المآسي بعدما تفاقمت جراحهن وتعمقت معاناتهن، ربما وقعن ضحايا الفقر في حياة لم ينسجوها، منهن من وقعن ضحايا لشبكات الدعارة، بعدما تعرضن للاستغلال، فوجدن أنفسهن في المتاهة، هناك حيث صرخاتهن الغاضبة والناقمة لا يسمع لها صدى.
على مدى سنوات يظللن يحملن أسرارهن، هي أسرار رهيبة، ذكريات لا تغمض لها جفونهن، هي حقائق مؤلمة، تتراءى لهن كل يوم، يحاولن الهروب منها، يحاولن نسيانها، يدعين النسيان، يصارعن من أجل الحياة، حياة تجرعن فيها المرارة والألم، بعدما واجهن العديد من الانكسارات الجسدية والنفسية، دمرت حياتهن البريئة، قلبت حياتهن رأسا على عقب، لم يتذوقن طعم الحب أبدا، ربما حرمن من دفء العائلة وحنانها، لم يتلقوا تلك الأحاسيس الصادقة والجميلة، فوجدن أنفسهن أمام العديد من الأبواب المغلقة، بعدما تقطعت بهن الطرق والسبل، فصرن وقودا لتجارة بخيسة تعلوها سلطة الجنس والمال.
- جبل التروبيك.. الحلقة المفقودة في أزمة الرباط ومدريد
- الذات بلا مغالاة
- فاجعة طنجة.. “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
- ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران
- غليانُ الشُّعُور عبر النظرة الفكرية العالمية
لم يعترف بهن المجتمع، لم يسمحن لأنفسهن بإبراز طاقاتهن وقدراتهن، أضعن أحلامهن الجميلة والكبيرة، أضعن مشروعاتهن المستقبلية، أضعن الحياة الكريمة.
بائعة الهوى، خرجت ليلا نحو المجهول..
لا تعرف مصيرها، قد تعود، كما قد لا تعود، لا تعرف ما الذي قد تواجهه، وفي ذهنها تتراقص العديد من السيناريوهات، تتطلع إلى من يقبل عليها، حتى تبيع له وردتها المسمومة، وقفت كعادتها في مكانها المعهود بملابسها الجذابة والمثيرة التي تبرز مفاتنها تحدق في المارة، توزع الابتسامات هنا وهناك، تنتظر زبائنها، غالبا ما تلقي الاختيار على الذين تظهر عليهم معالم الثراء، حتى يغدروا عليها من نعيمهم، هنا حيث يبدأ شريط حياتها…
ربما ليست راضية عن وضعها التعيس، بذلك الوجه المنهك، الذي تتخلله تلك الابتسامة الزائفة التي ترسمها كل حين، تلك اللحظات المؤلمة والحزينة، ربما سئمت من أوصاف العار التي تلاحقها أينما حلت وارتحلت، في مجتمع محافظ لا يرحم الخارجين عن قوانينه ومبادئه، إنما هي إرادتها حتى تؤمّن قوت يوم طويل، أو طمعاً في دراهم معدودة لا تغني شيئا، أو ربما من أجل عشاء فاخر في أحد المطاعم الكبرى، أو من أجل متعة ليلةٍ داخل أفخم الفنادق ذات النجوم وما إلى ذلك، حتى تشبع رغباتها ونزواتها، حتى تتذوق تلك اللذة ولو كانت عابرة.
هنالك حيث اكتشفت معنى جديد للحياة، لم تتخيل يوما ذلك النعيم، ربما تلك هي الحياة التي كانت تؤنسها في أحلامها، حياة الرغد والرفاهية، تلك اللحظات، عندما اعتبرتها لحظات كاملة وحقيقية، عندها اعترفت أن تلك الحياة هي التي أرادتها لنفسها عوضا عن حياتها التعيسة والفقيرة.
لم تستحي من نفسها ولا من خالقها، بعد أن انغمست في الذنوب والمعاصي، ربما لا تعرف جزاءَ ما تقترفه من خبث، ربما لا تؤمن بالجنة ولا النار، أو ربما لا تعرف ما الايمان، لم يساورها يوماً الشّعور بالذنب، فقد نجحت في إقناع روحها بعدم التذمر مما يفعله جسدها، لم تعد تسمع لضميرها، فقد قتلته منذ الوهلة الأولى عندما أنبها على الخطيئة التي ارتكبت آنذاك، عندما ظل يراودها ويهمس لها بأنها لا تستحق ما تفعله.
بداخل كل بائعة هوى حنين..
نعم حنين إلى حياة زوجية جميلة كانت ترسمها في أحلامها، حنين إلى فارس أحلامها الذي صنعته في مخيلتها وهي تلبس ثوب الزفاف في ليلة عرسها حيث كل الأنظار عليها، حنين إلى ذكريات طفولة جميلة وبريئة، حنين إلى مراهقة بكل تفاصيلها الدقيقة، حنين إلى شغف كان يحذوها، لتتلاشى كل تلك المعاني وتصير سرابا، لعلها تستحق حياة جديدة، فرصة جديدة، مكان حيث يمكن للمرأة به إعادة اكتشاف قيم لا تعد ولا تحصى.
عن اللواتي اخترن طريق الجسد العاري، تمرد قلمي غضبا لهن وعليهن، فلطالما ما تساءلت: هل اخترن حياتهن بأنفسهن أم أن القدر هو الذي اختارها لهن؟
لأستخلص في الأخير أنها إرادتهن، لا أنتقد أحدا ولا ألومه، فقط هو انزلاق القلم الذي باح بغير المباح، لهذا الواقع المرير..
تلك الحقيقة الصادمة.. ربما الدعاء لهن أقصى ما يمكننا فعله.